إياك أعني.. واسمعي يا جارة

أتعرفون فقير الكرامة؟

إحدى الملامح السلبية والسيئة في المجتمع، دافعها ربما الحسد وبالتأكيد فقر الثقافة، تصرفات لا أخلاقية تصدر من فئة تجاه أشخاص تفوقوا عليهم اجتماعيًا أو ثقافيًا أو ماديًا لغرض التشكيك فيما وصلوا إليه، لأنهم وصلوا مالم يستطع الوصول إليه.

فيظن من يمثل هذا الاتجاه إنه يستطيع بتملقه وضحالة فكره وانعدام مرؤته أن يتسلق على حساب من تقدمه فضلاً وعلمًا وفكرًا وكرامة وصدقًا وأمانة واتزانًا في المبادئ وتمسكًا بالقيم، بالنيل من سمعتهعند من يلهث عند أبوابهم!

فيرمي هذا (الأمعة) الصعلوك غيره ممن تفوق عليه بعيوب ويستنقص من قدره عند الآخرين يحسب أنه يحسن صنعًا، وهو والله إنما يتسارع بنفسه إلى قاع الدناءة وهو دنيء، ووحول الرذيلة وهو من أرذل الناس وأكذبهم وأحقرهم.

معتقدًا أن بضاعته (الكاسدة) مازال لها رواج في سوق الحقارة، ولا يعلم أن القطار قد تجاوزه ومن على شاكلته من (المتخلفين)!

فتقول لمثل هذا: إليك عني أيها الساقط في وحل القذارة، فمثلك لا يعاب عليه ولا يُعتب، لأنك ببساطة أتفه من أن يُرد عليك.

وفي المثل الفرنسي عبرة (إذا طُعنت من الخلف فاعلم أنك في المقدمة)

ولعل من يتقمص بطولة (فقير الكرامة) يجد في طيات هذا المقال ما يكفي إن كان ذا قلبٍ سليم، ولا أظن ذلك!

بالعودة للمثل (إياك أعني واسمعي يا جارة) فقد جاء في كتاب (زهر الأكم في الأمثال والحكم) لـ (الحسن اليوسي) “مثل مشهور الاستعمال عند التعريض بإظهارك شيئاً وأنت تريد شيئاً وهو لنهشل بن مالك الفزاري في شعر له. وسببه أنه خرج يريد النعمان بن المنذر فمر ببعض أحياء طيء فسأل من سيد الحي فدل على حارثة بن لأم الطائي فقصد رحله فلم يصبه حاضراً. فقالت له أخت حارثة: انزل على الرحب والسعة حتى يلحق حارثة. فأنزلته وأكرمت مثواه. ثم إنّه رآها وقد خرجت من خباء إلى خباء. فرأى جمالها باهرًا، وحسنًا فاتنًا. وكانت عقيلة قومها وسيدة نساء حيها. فوقعت من قلبه كل موقع وجعل يقول:

يا أخت خير البدو والحضاره … كيف ترين في فتى فزارة؟

أصبح بهوى حرة معطاره … إياك أعني واسمعي يا جارة!

فعرفت أنه يريدها فقالت: ما هذا بقول ذي عقل أريب ولا مصيبي ولا أنف نجيب. فقالت:

أقم ما أقمت مكرما وارتحل إذا ارتحلت مسلما! فاستحى وقال: واسوأتاه! فقالت: صدقت! وارتحل وأتى النعمان، فاكرمه وحياه فلما رجع نزل على أخيها حارثة وتبعت نفسه الجارية وكان جميلًا محبوبًا. فأرسلت إليه الجارية: إن كانت لك حاجة فاخطبني إلى أخي فإني سريعة إلى ذلك. فخطبها وتزوجها فسار بها إلى أهله.

والمثل هو عبارة موجزة قصيرة قيلت في حادثة حقيقية أو خيالية وانتشرت بين الناس فأصبحوا يرددونها في كل موقف.

ولكل مثل مورد ومضرب، فالمورد هو المناسبة التي قيل فيها المثل بداية، والمضرب هو قول المثل (إعادةً)في الحالة والموقف المشابه، مع ضرورة عدم التغيير والتعديل وإن كان به ما به من خلل.

وفي المثل (إياكِ أعني واسمعي يا جارة) ما تقدم هو مورد المثل ويضرب في المواقف المشابهة.

ومن الأمثال ما ذُكر جملة نثرية وعبارة قصيرة ومنها ما ذكر شعرًا وعلى سبيل المثال بيت لرهين المحبسين أبي العلاء المعري، ودائمًا ما يرد في مناسبات كثيره وهو قوله:

(وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا     عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ)

وعلى ذكر المعري فله موقف لا يمكن تجاوزه، فقد دخل يوما على الشريف الرضي فعثر برجل فقال الرجل:

من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا، فقربه الرضي واختبره فوجده علّامة، وإنه جرى ذكر المتنبي يوما فتنقصه الشريف الرضي وذكر معايبه فقال أبو العلاء المعري: لو لم يكن من شعر المتنبي إلا قوله:

(لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ     أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ)

لكفاه شرفًا وفضلاً، فغضب الشريف الرضي وأمر بسحبه وإخراجه من مجلسه، ثم قال لمن حضر مجلسه: أتدرون أي شيء أراد هذا الأعمى بذكر هذه القصيدة وللمتنبي أحسن منها ولم يذكرها؟ قالوا: لا، قال: إنما أراد قوله فيها:

(وَإِذا أَتَتكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ      فَهِيَ الشَهادَةُ لي بِأَنِّيَ كامِلُ)

هذه اللمحة وسرعة البديهة عند المعري قابلها ألمعية وقوة المعرفة عند الشريف الرضي، ولا غرابة فالأول متيم بشعر المتنبي ومتعصب له ويفضله في الشعر على بشار ابن برد ومن جاء بعده كأبي نواس وأبي تمام والبحتري وغيرهم، والآخر عالم باللغة والأدب وبحر زاخر بالمعرفة والدراية بالشعر والمعاني، فسطرت هذه الواقعة مشهدًا أدبيًا راقيًا.

*ومضة من الشعر النبطي:

    ((جرودك اللي على العربان تقداها)     ما دامها بالقفا لا شك ترضيني)*

             

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟