جدلية الفصيح والعامي ونشاز الأمسيات

رغم الحديث القديم الجديد حول جدلية الشعر الفصيح والشعر العامي، والتي أشبعت طرحًا ونقاشًا موضوعيًا ومتعصبًا لأحدهما، إلا إنهما فرعان لشجرة واحدة جذورها غاصت في تربة الموهبة الخصبة ونما فرعاها في جو الإبداع.

وحسب الشعر الفصيح فخرًا أن يجوب كل الأقطار العربية والجميع يعرف طعمه ويميز مذاقه ويدرك معانيه.

أما العامي ففرعه أقصر من شقيقه، وثمره خاص بجيرانه الذين تسببوا في محاصرته حتى يكون لهم خاصة، ولمن عاش ثقافتهم المحلية وعرف مقاصدهم ومصطلحاتهم.

وهذا تبسيط بسيط لتلك الجدلية التي تغضب تارة وتهدأ تارة أخرى.

ولكن ثمت جدلية أخرى تكمن في دمج اللغة العامية المحكية مع الفصحى بالتناوب في بين شطري البيت الواحد، وهي تجربة خاضها عدد يسير من الشعراء لأغراض ربما تكون استعراضية أكثر من أي شيء آخر.

وهذا مثال من قصيدة حظيت بانتشار واسع لعيادة الشمري:

بكيتُ حتى رويتُ الأرضَ مبتسمًا      (فقالت الأرض ما يبكيك يا عيـاده)

فقلتُ للأرض أبكوني وقد رحلوا    (حتى هواجيس بقعا أصبحت عاده)

ولن أناقش هذا بعمق، لأنتقل لمناقشة موضوع آخر أكثر جدلية وأكثر مناقشة بين المهتمين، ألا وهو دمج الأمسية الشعرية بفرعيه (الفصيح والعامي) معًا، لتكون الجدلية في ذهن المتلقي الذي ينتقل بالسمَع بين هذا وذاك.

فلا يكاد ينسجم مع هذا حتى يقتحم الآخر عليه محراب انسجامه فيحاول أن يتكيف مع الآتي العاتي وينجح فينسجم ويتناغم ويعيش الجو الشعري فـ إذا (الفجائية) بالأول يكرّ مرة أخرى ليستعيد جولته، وهكذا تستمر (المعركة) -التي نحن من أضرم نارها- ليلة كاملة!

والضحية هو المتلقي وأحاسيسه التي تتنقل بين ضفة وأخرى دون أن تملأ دلوًا أو تبل قربةً.

تخيل هذا ما حدث في أمسية تشرفت أن أكون أحد المشاركين فيها بمناسبة اليوم الوطني فألقيت قصيدة (عامية أو شعبية):   (الطير حن لعشه اللي ربى فيه    وأنا ضلوعي تحتضن حب دولة)

وأكملت القصيدة والحضور أزعم إنهم انسجموا مع اللغة والمفردات العامية فانتقل الدور للشاعر الجميل مروان المزيني ليقول وهو شاعر فصحى:

(غرسٌ تجذّر هاهنا وتموضعا   والفرعُ أمضى سامقًا متفرعا)

وأكمل رائعته ثم أعيد الدور للشعر العامي، فأجزم أن أحد فرعي الشعر ظُلِم تلك الليلة، ونحن من ظلمناه بهذا التنظيم، والحضور أيضًا نالهم النصيب من نواتج هذه الاضطرابات السمعية، حتى كأنهم يسمعون نشازًا صوتيًا، أعانهم الله!

لكل فرع محبيه ومريديه ولتكن أمسيات الشعر الفصيح مستقلة عن أمسيات الشعر الشعبي وهذا ما عهدناه سابقًا ولكن أراها الآن وكأنها سنة حسنة اتبعها الناس واستغلوا قيمة المناسبات الوطنية التي يتشرف كل شاعر أن يشارك الوطن أفراحه ويقدم ما يسطره من إبداع يتناغم مع المناسبة.
( هذي بلادي حين أنشد (سارعي)    تتسارع الكلمات حسنَا ماتعا) *مروان المزيني*

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟