على شفاه الراوي .. سوالفنا تاريخ لا ينضب

تيزار

مخزون ثقافي من القصص والأحداث يحملها الراوي على مر الأزمنة، وذكريات شفوية لم تدون كتابيا، إنما توارثتها الأجيال -جيلا بعد جيل- على لسان الرواة.
وتمثل الراوية وسيلة من وسائل الترفيه والتسلية للمجتمع، حيث يستطيع الراوي -بمهارته وقدراته الكلامية وعباراته الجمالية وخياله الواسع- شد انتباه الجمهور عبر الغوص في أعماقهم، وجعلهم لا يستمعون بآذانهم فحسب، إنما تحلق أذهانهم في عالم من الأحلام والخيالات.
وللراوي أثر بالغ على مجتمع القرية والقبيلة، إذ يقارب -شبها- القناة التلفزيونية في وقتنا الحاضر، ويستعرض الراوي قدراته الروائية والقصصية، مستخدما حركات يده وتعابير وجهه لإضفاء بعض التشويق والحماسة.
مميزات عمل الراوي تمكنه من الدخول في تفصيلات وتعليلات تدعم القصة دون الإخلال بها، وتجعل من سردها عملية مشوقة وحماسية تجعل المتلقي يستمع بشغف، ويتخيل بوضوح الحدث دون أن يراه.
ويمثل الخيال عماد الراوي، وبخاصة عند حديثه عن قصص أسطورية أو مرتبطة بعوالم أخرى، ويسمى ذلك النوع من القصص في اللهجة الشعبية الدارجة (السبحونة).
تأتي تركيبة القصة، أو (السالفة)، أو (السبحونة)، بتفاصيل مبعثرة ومعلومات متناثرة، ولكن بقدرة الراوي ومهارته يستطيع أن يخلق منها صورة كاملة بأسلوبه الخاص، ومهاراته السردية، وحركاته الإيمائية، ونبرات صوته.
وكان للراوي أثر بالغ في تأصيل تاريخنا؛ لقدرته على رواية قصص الانتصار بلغة مشوقة يروق للمجتمع الاستماع لتفاصيلها، مفتتحا سرده بـ«بسم الله علينا.. وعليكم.. بداية قصتنا».
كما أن من أبرز الأساليب التي يعتمدها الراوي في قصصه التكرار، والأساليب البلاغية المتنوعة، والجمل المسجوعة لاستمالة السامعين، وكذلك ليعطي القصة بعدا جماليا، وللراوي تميزًا عن غيره من الرواة، كما أن الاستمرارية وعدم الانقطاع في السرد من مهارات الراوي الأساسية، إذ تؤدي إلى الانسجام والتناغم بين المستمع والراوي، كما أن استخدام الراوي لبعض الألفاظ الجاذبة للمستمع؛ مثل: «طال عمرك، الله يسلمك، الله يحفظك… وغيرها من الألفاظ» يجعل منه محل اهتمام المستمع.
كذلك استخدام الراوي عبارات قريبة من الجمهور، وألفاظا شعبية مستقاة من بيئة المجتمع بخبرته ومعرفته السابقة لهم، يستطيع بذلك إيصال القصة بسهولة عبر السرد الشعبي الذي يراه مناسبًا لثقافتهم، كما أن استعمال الإيماءات والحركات المناسبة لمجرى أحداث القصة التي يرويها يجعل من المشوق أن يقوم بأدائها أمام الجمهور؛ كأن يسرد قصة عن السيف الأجرب -مثلاً- فيحرك يده وكأنها تحمل سيفا، أو أن يستخدم سيفًا حقيقيًّا لتحريك مشاعر المتلقي والوصول إلى الاندماج التام مع الراوي، ويستخدم مع ذلك ألفاظًا دلالية؛ كأن يقول «وهو يعطيك إياه، وهو يلوح بظهره».
كما أن استخدام الراوي أسلوب المتكلم يعطي تشويقًا وحماسة للمتلقي؛ كأن يروي القصة شاهدًا لها وحاضرًا لأحداثها، إذ يقول: «والله يالربع أنه شوف عيني محدن قالي، والله يا جماعة الخير أنه سمع أذني، هاك الرجال اللي طول بعرض».
كما أن الراوي الذكي الذي يستطيع ربط الخيال بالواقع هو من يقوم بربط القصة بالجمهور عبر استخدام أحدهم مثالاً لقصته؛ كأن يقول (كبر هاك الوليد)، وكذلك يستخدم العبارات اللائقة لدى الجمهور، وعند اضطراره لاستخدام الألفاظ غير المرغوبة يتبعها بقول «أكرمكم الله، أعزكم الله، الله يكفينا وإياكم شر الشرور وعظايم الأمور، بسم الله علينا وعليكم عظایم اسمه».
التكرار لدى الراوي له طابع خاص ودلالة مهمة، وبه يسعى لرسوخ القصة لدى الجمهور، وكذلك إضفاء الطابع التشويقي، فنجد أنه في العبارة الواحدة يكرر المعلومة ذاتها، ولكن ليس تكرارًا مملا، إنما يأتي مكملا للقصة؛ كأن يقول: «وهو يلفي عليه.. على عمه، وهو يضربه.. يضرب ولده، ما والله ذبحته أنا.. معه رمح هو»، كما أن الراوي يحب استخدام صيغة الأمر حين رواية القصة؛ كأن يقول «وقم واضرب فلان- ويقوم أنت يا فلان ويذبح ذلوله».
أما عن الجو العام للقصة والبيئة المحيطة للراوي، فإن موقعه -عادة- يكون في وسط المجلس الخاص بالحاكم أو أحد الأعيان، أو وسط ساحة السمر، سواء كانت تلك الساحة في وسط البلدة أو في البادية، ويكون موقعه مميزا في الوسط، حيث يستطيع الجمهور سماعه، ويلتف حوله الناس حلقات أو يوسطونه بصف واحد، كما أن مكانه في البادية -عادة-ً في الخيمة الخاصة بشيخ القبيلة أو أحد زعمائها، وهي من الخيام الكبيرة، أو يكون في وسط الصحراء تحت ضوء القمر وعند شعلة النار.
أما قصص النساء، فتكون في البيوت، وغالبًا ما تكون في بطن الحوي الخاص بالبيت (أي فناء البيت)، أو قد تكون في ساحات المزارع أو الصحراء الفسيحة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟