
مشاعر الشعراء في الحج
تذكر بعض كتب الأدب والتاريخ الأدبي قصصًا لبعض الشعراء -لا تخلو من غرابة- وإن كانت واردة جدًا، فطبع الناس مختلف، وهناك من لا يستطيع كبح جماح نفسه وهواه، ومن جملة ما روي مواقف لبعض الشعراء أثناء موسم الحج، وهي كثيرة جدًا، وما قاله الشعراء في الحج والمشاعر الشيء الكثير، ولكن هنا سأقف مع بعض مواقف الشعراء الغزليين وبعض حكاياتهم في موسم الحج.
فهذا قيس بن الملوح يقول: إِذا الحُجّاجُ لَم يَقِفوا بِلَيلى فَلَستُ أَرى لِحَجِّهُمُ تَماما
تَمامُ الحَجِّ أَن تَقِفُ المَطايا عَلى لَيلى وَتُقريها السَلاما
ويقول ذو الرمة: تمام الحج أن تقف المطايا على الخرقاء واضعة اللثام
وذلك أنه لما رأى ميّة أراد أن يتعلل بشيء ليكلمها فخرق دلوه ثم جاءها فقال: املئي لي دلوي. فقالت: أنا خرقاء لا صناع. فولى وعلى كتفه دلوه وقطعة حبلٍ.
وكما في كتاب طبقات فحول الشعراء لـ (ابن سلام الجمحي) قَالَ وَكَانَ ذُو الرمة أَيْضا ينْسب بخرقاء إِحْدَى نسَاء بني عَامر بن ربيعَة وَكَانَت تحل فلجة ويمر بهَا الْحَاج فتقعد لَهُم وتحدثهم وتهاديهم وَتقول أَنا منسك من مَنَاسِك الْحَج ثمَّ كَانَت تجْلِس مَعهَا فَاطِمَة ابْنَتهَا فَحَدثني من رَآهَا قَالَ لم تكن فَاطِمَة مثلهَا وَإِنَّمَا قَالَت أَنا من مَنَاسِك الْحَج لقَوْل ذِي الرمة
ويروى أن ذا الرّمّة لم ير ميّة قطّ إلّا في برقع، فأحبّ أن ينظر إلى وجهها فقال:
جزى الله البراقع من ثياب عن الفتيان شرّا ما بقينا
يوارين الملاح فلا نراها ويخفين القباح فيزدهينا
فنزعت البرقع عن وجهها فقال:
على وجه ميّ مسحة من ملاحة وتحت الثّياب الخزي لو كان باديا
فنزعت ثيابها وقامت عريانة فقال:
ألم تر أنّ الماء يخبث طعمه وإن كان لون الماء أبيض صافيا
فيا ضيعة الشّعر الذي لجّ فانقضى بميّ ولم أملك ضلالاً فؤاديا
فقالت له: أتحب أن تذوق طعمه؟ فقال: إي والله، فقالت: تذوّق الموت قبل أن تذوقه!
ومن شعره السائر فيها قوله:
إذا هبّت الأرواح من نحو جانب به أهل ميّ هاج شوقي هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنّما هوى كلّ نفس حيث حلّ حبيبها
قيل: كانت وفاته سنة سبع عشرة ومائة، ولما حضرته الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم، أنا ابن أربعين سنة، وأنشد:
يا قابض الرّوح من نفس إذا احتضرت وغافر الذّنب زحزحني عن النّار
وذهب ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» إلى قوله: وكان يشبب أيضا بخرقاء. وهي من بني البكاء بن عامر بن صعصعة.
أما صاحب الأغاني فيذكر حيناً أن خرقاء لقب لمية، ويذكر حينا آخر أنه لقب أو اسم لامرأة من بني عامر، وينقل أن ميّة أغضبت ذا الرّمّة فتغزل بخرقاء، يريد أن يغيظها بذلك، فقال فيها قصيدتين أو ثلاثا، ثم لم يلبث أن مات.
وفي (مصارع العشاق) لـ (أبي محمد جعفر السراج) وبعد (عنعنة ونقل)، قال: ذكر أبو المختار عن محمد بن قيس العبدي، قال: إنِّي لبالمزدلفة بين النائم واليقظان، إذ سمعت بكاءً مُتتابِعًا ونَفَسًا عاليًا، فاتَّبعت الصوت، فإذا أنا بجارية كأنها الشمس حُسنًا، ومعها عجوزٌ، فلطئتُ بالأرض لأنظر إليها وأمتِّع عيني بحسنها، فسمعتها تقول:
دعوتُكَ يا مولاي سِرًّا وجهرةً دعاء ضعيف القلب عن محمل الحبِّ
بُليت بقاسي القلبِ لا يَعرِفُ الهوى وأقتَل خلق الله للهائم الصبِّ
فإن كنتَ لم تقضِ المودَّة بيننا فلا تُخلِ من حُبٍّ له أبدًا قلبي
رضيتُ بهذا في الحياة فإن أمُت فحسبي ثوابًا في المعاد به حسبي
وجعلَت تُردد هذه الأبيات وتبكي، فقمت إليها فقلت: بنفسي أنت، مع هذا الوجه يمتنع عليك من تريدينه؟ قالت: نعم والله، وفي قلبه أكثر مما في قلبي. فقلت: إلى كم هذا البكاء؟ قالت: أبدًا أو يصير الدمع دمًا وتتلف نفسي غمًّا. فقلت لها: إن هذه لآخر ليلة من ليالي الحج، فلو سألتِ الله التوبة مما أنت فيه، رجوت أن يُذهِب حبَّه من قلبك. فقالت: يا هذا عليك بنفسك في طلب رغبتك، فإني قد قدَّمت رغبتي إلى من ليس يجهل بُغيتي. وحولت وجهها عني، وأقبلَت على بكائها وشعرها، ولم يعمل فيها قولي وعظتي.
في المقالة القادمة نستكمل (دَعَا باسم ليلى غَيرهَا فَكَأَنَّمَا أطار بليلى طائرًا كَانَ فِي صدري)*قيس بن الملوح