الله يرحم مطلق!

كتبت هنا بتاريخ 22/5/1443هـ أي قبل ما يقارب السبعة أشهر مقالاً بعنوان “المحاورات الشعرية إلى الطريق المنحدرة”، ذكرت فيه أصل المحاورات الشعرية وبدايتها وتاريخها منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا هذا، وما طرأ عليها من تغير وتجديد وطريقة عرض، وكذلك عرضت للغرض منها وأهدافها ورموزها، وبعض معانيها الرفيعة، ثم ما آلت إليه من سقوط وانحدار في مستنقعات الرداءة والانحطاط..

واليوم أعود للكتابة مرة أخرى حول الموضوع نفسه، حين لاحظت ولاحظ الكثيرون ما وصل إليه بعض (أبطال) ممارسي هذا الدور الفلكلوري الجميل في الأصل من اهتمام مبالغ فيه في الشتائم والسباب والتعرض للأعراض والأنساب والأصول في صورة من أقبح صور التدهور في المعاني.

وبعد كل أمسية من أماسي (المهاترات) وما يتبعها من ردود فعل تصل بعضها إلى الاشتباكات بالأيدي، وبعضها بالتلويح برفع لوائح الشكوى والدعوى للجهات الأمنية، مما يستدعي تسيير قوافل الاعتذار الفعلية وما يخيم عليها من تصوير وإخراج وبث، مصحوبة بسحب من (الهياط)، وقوافل أخرى من الاعتذارات الافتراضية عبر وسائل التواصل الافتراضي. وفيها تطبيق وثيق لمقولة (عذر أقبح من ذنب).

لكن اللافت للنظر والمضحك المبكي هو طريقة الاعتذار، أعني اعتذار المدعو بـ (الشاعر) وتبريراته حين يعتذر بقوله (هذه رمزية)! لا كما فهمتموها وإنما المعنى (في بطن الشاعر)! ..

أما المضحك في هذا (الاعتذار المشوّه) فهو حول الادعاء بأنه شاعر! فإن كان رص الشتائم والقذف بأسلوب موزون مقفى هو الشعر وقائله (شاعر) فما أسهل الشعر! وما أتفه (الشعر)! وما أحقر (الشعر)!

الشعر أرقى وأسمى من تلك الكلمات الملوية والتي تنفث روح (الهبوط) والدجل والسب والقذف، الشعر هو قمة الكلام، لما يحمله من قوة معنى في عبارات محكمة ورصينة. (إذا الشعر لم يهززك عند سماعه    فليس خليقا أن يقال له شعر)

أما المبكي فيه هو حين يتشدقون بـ (الرمزية)! عن أي رمزية يتحدثون! هل فيما يطرحون من شتائم، رمزية؟ وهل في اللعن رمزية؟ وهل في القذف رمزية؟

يتحدثون بكل ثقة عن (الرمزية) وكأنهم رموزًا لها! ثقافة ضحلة -إن وجدت- وثقة مفرطة في غير محلها..

الرمزية بـ (اختصار) هي أن تقرأ أو تسمع النص ولا تفهم مقصده إلا بعد رواية تقرأها أو تسمعها مع المعرفة الكاملة بقاموس الرمزية.

أما من يسب ويقذف مباشرة فعن أي رمزية يتحدث؟ ويمكن أن ينطبق على هؤلاء المقولة العامية (حافظ مش فاهم)!

(لا تأخذنّي بأقوال الوشاة).. لا أعني الجميع هنا، ولكن أقصد البعض الذين (شوهوا) هذا الموروث بثقافة السقوط الموغل في وحل الانحطاط! ورغم قلة عددهم إلا إن أكثر من يزيدهم (سقوطًا) صياح أمثالهم، وردة فعل مؤيديهم وخصومهم.

هناك الشعراء الذين (يملؤون) المكان.. شعرًا وأدبًا وفكرًا. يتناقشون بكل هدوء وأدب في حوار غاية في الجمال والرقي، فتسمع حين تسمع شعرًا (معنى ومغنى)، تشبع رغباتك الشعرية والفنية.

رحم الله مطلق الثبيتي ومن كان على ذلك النهج في تطور (فن القلطة) حين أخرجها من قواميسالقبلية والكلام المكرر إلى مناقشة القضايا الثقافية والاجتماعية المطروحة في الساحة، في مواكبة لكل الأحداث بأسلوب فني رفيع.

فهل من مجدد؟ يعيد التوازن للمحاورات إما بإعادتها إلى مسارها الذي رسمه لها (مطلق ومن معه) أو باستحداث مسارات ونمط أرقى من هذه الأساليب (الرخيصة) التي لا رمزية فيها سوى أنها (منتنة) فدعوها..

لقد توافرت المعلومة في وقتنا هذا وبكل سهولة، وما زال البعض يغوص في أعماق الحكايات القديمة (البالية) باحثًا عن قصة ربما لا أصل لها وإنما سارت بها الركبان من باب التنافس والمماحكات التي أُلفت نتيجة حدثٍ ما، فيعيدوا نشرها حتى وكأنها إحدى الثوابت التاريخية التي تستوجب الرد من المتضرر بتهمة أقذع منها وإثباتها من قِبَل مرددها بشتى طرق الإقناع المتمثل في الإعادة التكرار..

فيدورون في حلقة مفرغة بسرعة متهورة تضبط مسارهم جاذبية نداء الشهرة من جهة، وجاذبية عدم قابلية التطور والنهضة الثقافية من الجهة المقابلة.

واللوم لا يقع على هؤلاء (الشتامين المهرجين) فحسب، بل على مكاتب التنسيق، وأصحاب الحفلات، وربما لهم الدور الأكبر في مثل هذه الاساءات المتكررة، إذ من الغريب أن يباركوا بأن يكون محلهم منبرًا  لها!

قفلة: (أنحى على الشعر ناس يبتغون له   نقداً فأعوزهم علم وعرفانُ

            قد يُكثر الشعر ذو جهل بصنعته    حَتى يقال.. له شعر وديوان) *جميل صدقيالزهاوي

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟