أساتذة التمويه المتأنقون

 

نحن نكتب؛ لنختفي.
إنها مهمة ذكية، أن تحجب بواسطة الكشف، ولربما لا يملك أحد ما -غير الكتّاب- هذه المهارة؛ لأن اللعب بالكلمات يؤدي -غالبا- إلى تمويه المعنى، لا تجليته -كما يظن الكثيرون.. ربما يكون الكتّاب، وليس المهرجون، هم أبرع البشر في تمويه ذواتهم الحقيقية.

حين يكتب الإنسان -غالبا- هو في الحقيقة يبحث عن طريقة للخروج من ورطة.. تلك الورطة هي انكشاف ذاته أمام ذاته؛ بمعنى أنه يعي ويدرك شيئا من نفسه، فيخفي ذلك عن نفسه أولا، بالكتابة، وهو يظن أنه يعبر عنها.. يقع الكاتب في الفخ قبل أن نقع فيه نحن القراء، فيحجب -بنصه- ما يظنه ينكشف، وتبدأ حينها مرحلة (تشفير الذات).. ألم تكن الكتابة عبر فترات تطورها، انطلاقا من ابتكارها نظاما رمزيا، عبارة عن شيفرة للتواصل، وربما التعبير عن الذات؟.

إذن، يستعين الكاتب بالحجب، التي تشكلها الكلمات؛ لبناء ساتر معرفي يواري انكشافه، وعري جسد تجلياته، عن ما يدرك من نفسه، ووجوده، وانفعالاته العميقة، فيصف اختلاجات نفسه بوسيط، أو بأدوات، هي الكلمات والتراكيب اللغوية، وأكثر ما يفعل ذلك -بالطبع- هم الشعراء، بمجازاتهم، ومحسناتهم البلاغية، التي يرتكزون عليها؛ لبناء وتشكيل صور، أبعد ما تكون عن الكشف، والتجلي، والانفتاح على مواطن الإدراك والوعي، في حالة قراءة المكتوب، فالمكتوب على جبين الكاتب لا تراه العين؛ سواء عين الكاتب نفسه لنفسه، أو لجبينه، أو عين القارئ/ الآخر لقرينه الكاتب.

وكلما توغلت في صميم مكتسباتنا، تلك الموهبة الخطيرة، نتمرس بدهاء -نحن الكتّاب- على تعميق حجبنا واحتجاباتنا، ونصبح سادة التمويه بكل اقتدار، حين نتمسك بعرى الكتابة والتأليف؛ نلوذ بأبرز مخرجات اللغة، وأسرارها وغوامضها؛ لنبني الحصون، وننشئ القلاع والمتاريس اللفظية، التي تباعدنا عن خطيئة المعرفة، التي هممنا نحوها، متطلعين لثمرتها، عبر إغواء أفعى الإدلاء بما لا قوة لنا على إبهار إشعاعه، حين ادعينا أننا نكتب لنكشف ونظهر.

لا بأس، إذن، إن وقع سادة القلم فريسة غواية ما، منّتهم بالخلود المعرفي وحسن الصيت، فهم ورثة شرعيون لشهوة البوح، والبوح منطقة خطرة -بلا شك، وميدانه الذات وما تجود، وما يزدحم فيها من اختلاجات تبهر النفس حال وعيها وإدراكها، ومحفزة -في ذات الوقت وذات الاشتهاء- في التعبير عن ما يدرك وما لا يدرك، من كهوف التجليات، الساكنة والمهيبة والسرية.

الكتابة سبب وجيه، لكن!.. أليست الأسباب -دائما- علة لنتائج مرتقبة، تستشرفها جناية الدوافع؟.. إذن، ليحكم كل عابر للرؤيا، وكل مستنطق للأحاديث الغائرة في سحيق الذات، تأويلاته، لعله يقيس بمعيار الوضوح جل تعبيراته بالكتابة عن (كل شيء) يكتبه، لعله لا يعدم الكل قربانا لتشفير ذاته، منذ أن أضحى كاتبا يمشي على حبل اللغة، ويطوح بكرياته النصية الزجاجية.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟