في جادة قباء.. أعلمت أنك بالمدينة؟!

بقلم: محمد صالح البلهيشي

وجادة قباء التي رسمها واقعاً وإسماً وتاريخاً صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله تعتبر تاريخاً ناطقاً بعمقها وفكرتها وأهدافها ومن خلالها تتجسد مواكب البطولات في مخيلة السائر بها تسير أقدامه بين مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء وصور شتى تتراءى له ويتحدث مع كل شبر يسير عليه أو ذرة رمل في هذه المدينة المباركة التي قبلت أقدام سيد ولد أدم وصحابته الكرام ذهاباً وإياباً إذ لا يكاد يوجد شبر واحد في هذه البقعة إلا وهو يشرُفُ ويسجل تاريخاً مشرقاً للدعوة المحمدية ولخير البرية عليه الصلاة والسلام وصحابته الابرار..

ومن خلال الجادة وتاريخها يتصور الزائر والسائر بين جنباتها وعلى ضفافها كيف خرج نبي الهدى من مكة مهاجراً متخفيا والعيون والأعداء لدعوته يترصدون طمس ما يدعو إليه هذا النبي العظيم وقد وضعوا مائة من الإبل لمن يأتي به حياً أو ميتاً من شدة حنقهم وحرصهم على وأد الدعوة والقضاء على هذا النبي الذي ما لبث أن وصل إلى هذه الدار حتى استقبل بالتهليل والتكبير والعزة والشموخ والإباء والأناشيد المعبرة (طلع البدر علينامن ثنيات الوداع) 

وفي مسيرة ناقته القصواء عبر جادة قباء وعلى ضفافها يتسابق زعماء قبائل الأوس والخزرج إلى خطام ناقته ليحظى كل منهم بشرف نزول هذا القادم الكريم إلى حيه وبين ربوع قبيلتهوهو عليه السلام يردد: (خلوا سبيلها..فإنها مأمورة) واستشعروا يومها أن القصواء قد أُمرت من رب العالمين سبحانه وتعالى بموقع معين في هذه الربوع الزاهية.. حتى إذا بركت حيث أمرها الله في موضع مسجده ومنبره. قال (ها هنا المنزل إن شاء الله..) ولم ينته سباق المستقبلين عند هذا بل سارعوا في سباق آخر إلى متاعه صلى الله عليه وسلم الذي سبق إليه الصحابي الجليل أبو أيوب الانصاري حيث حمله مسرعاً إلى داره القريبة من موضع مبرك الناقة المباركة ففاز بهذا الشرف رضي الله عنه وقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع متاعه) أو كما قال: منهيآ حرج ذلك السباق الشريف

وما إن استقر النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدأ سباق أخر بين مستقبليه الأوس والخزرج والمهاجرين هو سباق المسارعة والمشاركة في بناء المسجد الذي خط معالمه وحدوده النبي عليه الصلاة والسلام فتسابقوا وشاركوا في البناء وهو معهم حتى صار هذا المسجد جوهرة في جبين الزمان لا بتجديده وبنائه فحسب بل صار المركز الذي تلقى فيه الأصحاب تعاليم الإسلام ومنه تعقد الرايات للجهاد وفي جنباته وحي ينزل من السماء وفي ردهاته تعقد الشورى وهو المصلى والمنتدى وبه تستقبل الوفود وبه عقدت المؤاخاة بين الأوس والخزرج من جهة وبين المهاجرين من جهة أخرى وكتبت المعاهدات بين دولة الإسلام وغيرهم من قبائل العرب..

إن جادة قباء قد أوحت ورسمت وصورت كل ذلك حساً ومعنى فالجادة بضفافها وساحاتها والمناطق المشرفة عليها من قباء إلى ساحات المسجد النبوي الشريف مروراً بالمصلى ورانوناء وسوق المدينة بالمناخة وأحد وسلع وثنيات الوداع والنقا وحاجر والعقيق والجماوات كل ذلك وغيره من بقاع هذه المدينة المقدسة كلها مثلتها جادة قباء التي أضاءت الكون كله بمسار الهادي البشير وهو على ظهر ناقته محاطاً بمستقبليه تحوطهم أنوار النبوة وإشراقات المدينة يوم أن أضاء منها كل شيء في ذلك اليوم العظيم يوم الهجرة المباركة وصارت منورة منذ ذلك التاريخ..

لقد بادلهم صلى الله عليه وسلم حباً بحب وسجل التاريخ حب نبي الأمة لهذه المدينة العظيمة ولأهلها ما سجله المؤرخون والكتاب وأهل السير.. بل ما ترسخ في أساس الدين القويم وخلد في ثنايا التاريخ وحقبه وأزمانه ما فاخر به أهل المدينة في كل زمن ويفاخرون به إلى أن تقوم الساعة من أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام ولهذا سوف يصغي السائر والزائر في جادة قباء إلى ذلك الهاتف الذي يقول له ويستشعر عظمتها في وجدانه وخياله وغيوم ذكرياته..

يقول له: أعلمت أنك بالمدينة؟ وأي مدينة؟!

المدينة التي دعا لها عليه الصلاة والسلام وقال: (اللهم إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة وأنا محمد عبدك ونبيك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثل ما دعاك به إبراهيم لأهل مكة...)، (ندعوك أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم اللهم أجعل مع البركة بركتين.. اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشد) ، (اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاها ولا يصاد صيدها..)

(..المدينة حرم ما بين عير إلى ثور.. فمن أحدث فيها حدثاً أو أوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين..).

المدينة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: (المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومبوأ الحلال والحرام). المدينة يأرز الإيمان إليها كما تأرز الحية إلى جحرها.. المدينة (لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة..) .. (..من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت فيها..).

كل من سار على جادة قباء تبرز في ذهنه كل تلك المعاني وغيرهاوفوق كل ذلك يستشعر قدسية ومكانة الروضة المطهرة ومنبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وترعة وادي بطحان وشموخ جبل أحد وكلها مواقع من الجنة في هذه المدينة العظيمة للأحاديث الواردة فيها وبها تفاخر طيبة مدن العالم بأجمعها على مر العصور والازمان

كل من سار على جادة قباء يبرز التاريخ أمامه تلك الإشراقات من الأنوار المحمدية لهذه المدينة العظيمة ويركز التاريخ أمامه ذلك السؤال الكبير.. أعلمت أنك بالمدينة؟ وأي مدينة؟!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟