حادي الركب .. الذي ترجل

بقلم: محمد صالح محمد البلهيشي

 

لهفي عليك وقد رحلت مودعا يـحـدو مـقـامـك هيبة وجــلال
مـالـو بـنـعشك للبقيع وكيف لا والى الـبقيع تـشيــع الأبـــطـــال
الـواهـبـون حـيـاتـهــم لـبـلادهــــــــــــــــم وبـمـثلــهـم تـــتـدافـع الأجــــــــيـــــــال
يـا أيـها الـشـيـخ الـجـلـيـل تـحـيــــــة بعد الوداع فدمعنا هطال

تذكرت هذه الأبيات من قصيدة طويلة قالها الشاعر السوداني أبو القاسم عثمان على قبر الأستاذ عبدالعزيز الربيع رحمه الله بالبقيع قبل اربعين عاماً تقريباً …وكانت أمنية الربيع عليه رحمة الله أن يدفن بالبقيع في هذه المدينة العظيمة التي أحبها حباً ليس له نظير وعزف عن جميع المغريات للتحول عنها …

تذكرت هذه الأبيات وذلك الموقف وعمق تلك المحبة لمدينة المختار عند ذلك الرجل و أنا أنظر الى محب اخر للمدينة المنورة ومسجدها العظيم وبقيعها المميز وهو يحظى بشرف هذا المكان ويستظل برحمة الله تعالى ثم بنسمات طيبة الطيبة حياً وميتاً
انه ابن المدينة البار د:عاصم حمدان عليه رحمة الله وبركاته …. الذي ووري جثمانه في بقيع الغرقد
بعد ظهر يوم الاحد 24 رمضان 1441هـ ….

عاصم حمدان الذي تربى في مدينة المختار صلى الله عليه وسلم وتغنى بأمجادها وتروى بتاريخها و وقف طويلا مصلياً في مسجد خير الأنام ومسلماً عليه وعلى صاحبيه مطمئن الفؤاد قرير العين كما وقف طويلاً في جنبات المسجد الحرام في مكة المكرمة وتعمق في تاريخها الطويل عبر القرون والازمان و استشرف من جبل النور وغار ثور عظمة مراحل الدعوة المحمدية
وصبر النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في سبيل نشرها ..
.

عاصم حمدان ذلك الحب الذي مشى في حارة الاغوات وساحات المناخة ورياض قباء والعوالي ونخيل العيون تحت ظلال
جبل أحد العظيم …مشى وأستشعر عبق تلك المغاني العطرة انساناً ومكاناً وتاريخاً وبطولات ..
.

تذوق نسيم العقيق وبطحان وقناة ومجمع الأسيال وغابة بن الزبير والجماوات …. وتشبعت روحه من نفحات تلك الربوع
فأحب كل ذرة من تراب طيبة الطيبة حباً ليس له حدود ولذلك خاطب الانسان والمرابع والأحياء والاحوشه والبيوت ( و الأزقة ) وتكلم مع التاريخ على مر عصوره و ازمانه كلام المحب المعجب الذي ارتوى منه حتى الثمالة ..
.

ولذلك تهيأت له الأسباب ليحتضنه بقيع الغرقد وليكون بإذن الله من بين الأصفياء الذين تشملهم شفاعة سيد الخلق
عليه الصلاة و السلام …

د. عاصم حمدان الذي اعتبره أنا شخصياً وكل من عرفه ابناً باراً وصديقاً وفياً ومتابعاً دقيقاً لكل بادرة مميزه في هذا البلد الطاهر …عرفته قبل اربعين عاماً عندما توفي الاستاذ عبدالعزيز الربيع مدير التعليم الأسبق بالمدينة المنورة  و قمت بعد وفاته يرحمه الله بجمع ما كتب عنه في الصحف والمجلات كأحد رجالات الفكر والتربية و الأدب وأصدرت ذلك في كتاب بعد وفاته مباشرةً بعنوان ( لمحات من حياة الربيع ) وتلقيت يومها من الدكتور عاصم حمدان المباركة والاشادة بذلك العمل
بصورة مفعمة بالإعجاب والتشجيع وآيات الوفاء والتقدير …

وقبل خمسة وعشرين عاماً قابلته في مناسبة خاصه فأشاد بما قمت به من جمع تراث الأستاذ عبدالعزيز الربيع في ستة كتب فأثناء على هذا الوفاء وذلك الجهد الذي قمت به وكتب في عاموده ( رؤية فكرية ) بجريدة المدينة تحت عنوان
(تراث الربيع …يعود الى الحياة من جديد …)

قال فيه : ( تفتحت ابصار الأجيال الناشئة في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي ترى أعلاماً شامخة تجمع بين
العلم والأدب وتشارك في الحياة الثقافية والفكرية في البلد الذي شع منه نور العلم فأضاء الكون جميعه من ذلك
الشعاع وتفتحت به العقول والبصائر …

وكان الأستاذ الربيع ممن جمع الله لهم بين سمات عدة منها التعمق في المجال التربوي كأستاذ ثم مدير للتعليم
وفرض بثقافته المتعددة نفسه على الساحة الأدبية فاستأثر لفترة زمنية طويلة بالكتابة في التعدد الأدبي …

وانتقل الاستاذ الربيع الى رحمة الله وسارعت الاقلام في الساحة الادبية ترثي علماً من أعلام الفكر والأدب والتربية والتعليم
في بلادنا …وتصدى الاستاذ الكريم ( محمد بن صالح البليهشي ) الى جمع ما كتب عن هذا الفقيد و أصدر كتابه المعروف
( لمحات من حياة الربيع ) …

وبعد وفاته يرحمه الله تساءل المثقفون والأدباء والمفكرون عن تراث ونتاج الربيع الفكري والأدبي الذي كانت تقذف به المطابع
في العالم العربي وبلادنا وما تضمن ذلك من نقد علمي كتب بلغة رصينه ومعبرة ..
..

وكانت عزيمة الاستاذ ( البليهشي ) عن وفائه لأستاذه أكبر من الصعوبات والعوائق فإذا هو يتصدى للتنقيب عن تـراث
الاستاذ الربيع فيخرجه في مجلدات عدة بعث بها الي استاذي الفاضل الدكتور محمد الرويثي تشجيعا منه ووفاءً كريماً…

لقد بلغ ما كتبه الرائد ( الربيع ) طوال رحلته مع الحرف المضيء والكلمة الأدبية الرفيعة ما يزيد على الفي صفحة سوف تكون مادة أدبية أمام الأجيال التي سمعت  بالربيع ولم تتح له الفرصة لقراءة ما ابدع  و دون …)أ.هـ

وأقول إن هذه اللمحات السابقة مستله من مقاله يرحمه الله الذي بعثه الي ونشر بجريدة المدينة قبل خمسة وعشرين عاماً معجباً ومشيداً ومشجعاً في تواضع جم وسماحة خلق ....

وفي عام 1435ه اقيم احتفال كبير بالمدينة المنورة لتكريمي ويومها دعوته ففرح بذلك وأشاد و وعد بالحضور
ولكنه اعتذر في اخر لحظة لعارض مرضي وبعث بكلمة كلها حب وتقدير وثناء وطلب اضافتها في كتاب توثيق الحفل ..
..

وفي عام 1437 ه كنت في جده ضمن المكرمين في احتفال جمعية خريجي طيبة الثانوية بمناسبة مرور خمسة وسبعين عاماً
على تأسيس هذه المدرسة  وصدور الطبعة الثانية من كتاب توثيق مسار هذه المدرسة الذي قمت بإعداده بتكليف
من لجنة خريجي المدرسة برئاسة الدكتور أحمد محمد علي حفظه الله وبعد الحفل قام الدكتور
عاصم حمدان وهو يمسك بالكتاب ويرفعه عالياً أمام الحاضرين وقال: ( لقد استطاع البليهشي أن يدخل كل بيت
في المدينة المنورة بهذا السفر الموثق لجزء هام من تاريخها وتاريخ التعليم بها …)

انني اذكر كل ذلك وغيره اعجاباً بوفائه ودماثة خلقه وصفاء نفسه وطيبة قلبه وبعده عن التعصب والانانية ونبذهللتعالي
و الفوقية ولأبرهن لكل من يسأل عن  أبي أحمد الدكتور عاصم حمدان اي انسان هو من الرجال ؟ ..
..

انه الوفاء بكل مفاهيمه والحب بكل معانيه والتواضع بكل صوره وأشكاله والبعد عن فحش القول والحط من أقدار الرجال والقدرة على استيعاب كل الاطياف واحتواء كل المواقف بمهنية وشفافية و ثقافة عالية 

وهاهو يرحمه الله يغادر دنيانا ويترك خلفه في نفوس محبيه وعارفيه وطلابه فيوضات الحب والتقدير والذكريات الطيبة
ومكارم الاخلاق التي سوف يعيش بها عمراً ثانياً في دنيا الناس ردحاً من الزمن ويتلقى بإذنه تعالى الرحمات عليه كلما ذكرت فضيلة أو موقف له او ذكرى تستحضر شيئاً من شمائلة …

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟