من جادة قباء.. إلى الحديبية

جادة قباء التي رسمها واقعاً واسماً وتاريخاً صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله وتابع خطوات تنفيذها بخطط محكمة ومكونات مدروسة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن خالد الفيصل بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة المدينة المنورة تعتبر تاريخاً ناطقاً بعمقها وفكرتها وأهدافها ومن خلالها تتجسد مواكب البطولات في مخيلة السائر بها..

فهي تختزن في داخلها وبين جنباتها تاريخ الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى تمد السائر فيها بشتى الأمجاد الإسلامية لهذه الدعوة إذ كلما فكر وتخيل واسترجع أي صورة أو بطولة يجدها حاضرة أمامه بكل تفاصيلها بعمق خاص وطعم مميز

وصلت إلى المدينة وعلى جادة قباء إشاعة أخبار مقتل عثمان رضي الله عنه وغضب النبي عليه الصلاة والسلام من هذا التصرف المشين من قريش ودعوة النبي لأصحابه على المبايعة لقتال المشركين الذين اعتدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم أول المبايعين وقال: في بيعة الرضوان الصحابي الجليل (أبو سفيان الأسدي..) وتتابع الأصحاب للمبايعة على الموت وعدم الفرار وبايع النبي عن عثمان بن عفان وقال عليه السلام: (إني لأرجو أن لا يدخل النار أحد إن شاء الله تعالى ممن شهد بدراً والحديبية..) وقال جابر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا يوم الحديبية: (أنتم خير أهل الأرض..) ووصلت أخبار هذه البيعة إلى قريش فأرسلوا سهيل بن عمرو ومعه رجال لمفاوضة النبي وقالوا له: (إئت محمداً فصالحه حتى لو لم يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا.. فواللهلا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً..)

وقد تفاءل عليه السلام بمجيء سهيل وعرف أن رسوله عثمان رضي الله عنه لم يقتل وصارت المفاوضات بين سهيل ونبي الأمة عليه الصلاة والسلام وتم الاتفاق وأمر النبي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكتابة ما تم الاتفاق عليه وأمر سهيل بن عمرو على كتابة باسمك اللهم في بداية الوثيقة وكتابة محمد بن عبدالله بدلاً من رسول الله حيث قال سهيل: (لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك) وقال عليه السلام: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني) وتسامح النبي في تسجيل ما رغبه سهيل بن عمرو وسط اعتراضات بعض الصحابة على بعض بنود الاتفاقية.. ولكن رسول الله يأمر فيطاع.. وتم الاتفاق على هذا الصلح الذي وصل المدينة وتناقلته جنباتها باسم صلح الحديبية وبعد كتابة صلح الحديبية نادى منادي الرسول في جيشه المظفر الذين بايعوه تحت الشجرة بقوله: (قوموا فانحروا ثم احلقوا..) وبادر عليه السلام بمشورة أم سلمة رضي الله عنها فنحر ثم حلق فتسابق الأصحاب إلى الاقتداء به رغم أن أكثرهم يرون خلاف ذلك

ويوم أن سار نبي الهدى من جادة قباء كان من بين أكثر من سبعين بدنه جمل لأبي جهل في رأسه (برة من فضة) غنمه المسلمون في غزوة بدر فساقه عليه الصلاة والسلام هدية للكعبة لإغاظة قريش وعند إقامة الجيش النبوي في الحديبية نزع هذا الجمل إلى مبركة أمام دار أبي جهل على بعد أكثر من خمسة عشر ميلاً ورغم مرور سنوات على تلك المعركة وعرضت قريش مائة من الإبل مقابل هذا الجمل لأنه كان لأحد قادتهم وقد ذكرهم بمواقف لصاحبه ولما أثار في نفوسهم من نعرات كامنه ولكن الرسول قال بأن الجمل قد (وسم) هدية للكعبة فاسترجعه ونحره رغم حرص وإصرار قريش على فدائه وفي صباح يوم من أيام الشهر الأخير من السنة السادسة للهجرة أشرقت أنوار جادة قباء بوصول نبي الهدى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام الذين ساروا معه وانتهت مهمتهم وعرف بقية الأصحاب في المدينة من نبيهم أن الاتفاقية قد تضمنت تأجيل العمرة إلى العام القادم وقيام هدنة بين الطرفين مدتها عشرة أعوام وترك الفرصة للقبائل لتحالف من تشاء من المسلمين أو من قريش وأن يرد المسلمون من جاءهم من القرشيين إذا طلبهم ذووهم ولا يرد المشركون من جاءهم فاراً من المسلمين.. وعلى الرغم من امتعاض بعض الصحابة من بعض الشروط إلا أن القرآن نزل على نبيهم يبشرهم بالفتح المبين وبشرهم عليه السلام في طريق العودة بقوله:( لقدْ أُنزِلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ سورةٌ، لَهِيَ أحبُّ إليَّ مِمَّا طلَعَتْ عليه الشَّمسُ) ثُمَّ قَرأَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)

وعلى جادة قباء بعد وصول الرسول إلى المدينة أتى أبو بصير عتبة بن أسيد فاراً من قريش بعد أن حبسوه معاقبةً له على إسلامه وألتجأ أبو بصير بالنبي وأرسلت قريش في أثره اثنين من فرسانها ليرجعاه تنفيذاً للاتفاقية فقال عليه الصلاة والسلام: (يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح لنا في ديننا الغدر.. وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً فانطلق إلى قومك) فقال يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: (يا أبا بصير انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً..) فانطلق معهم.. وقبل حادثة أبي بصير هذا كان قد أتى إلى النبي في الحديبية وأثناء الكتابة والمفاوضة (أبو جندل) وهو ابن المفاوض سهيل بن عمرو وكان قد أسلم وألتجأ بالرسول لكي لا يرجعه فقال سهيل: يا محمد.. قد لجت القضية (أي تمت) بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا وحاول الرسول استثناء أبا جندل من القضية فرفض أبوه فقال عليه السلام لأبي جندل وهو يصرخ ويستجدي بالرسول: ( يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله.. وإنا لا نغدر بهم(..

ومن على جادة قباء انطلق أبو بصير مع وفد قريش حتى وصلا إلى ذي الحليفة فجلسا ليستريحا فقال أبو بصير لأحدهما: (أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم.قال: دعني أنظر إليه فاستله أبو بصير وقتل به صاحبه ففر الآخر إلى رسول الله وقال يا محمد لقد قتل صاحبكم صاحبي.. وحضر أبو بصير متوشحاً السيف وقال يا رسول الله لقد وفت ذمتك وأدى الله عنك.. اسلمتني بيد القوم.. وقد امتنعت بديني أن أفتن أو يبعث لي.. فقال النبي: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال(.. وخرج أبو بصير عند النبي والتحق بساحل العيص (ساحل البحر) وينفلت أبو جندل من قريش ويلحق به.. وصار كل من سلم من بطش قريش يلحق بأبي بصير حتى شكلوا فرقة تتعقب عير قريش الذاهبة والآيبةمن الشام فتأذت قريش من ذلك أذى كثيراً وصارت قوافلها مهدده بفعل أبي بصير وعصابته وصار أبو بصير فعلاً مسعر حرب ومعه رجاله.. وما لبثت قريش أن أرسلوا وفداً إلى المدينة لمقابلة النبي محمد وناشدوه بالله والرحم أن لا يرد إليهم من أسلم من قومهم لأنهم قد تأذوا من عدم قبول النبي لهم وشكلوا جيشاً جديداً على الساحل يتعقب عير قريش فيقتلون وينهبون الأموال التي عليها.. وبناءً على طلب قريش آواهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقدموا المدينة

ومن جادة قباء دخل عمرو بن سالم الخزاعي ومعه وفد من خزاعه وكانت خزاعة في عقد المسلمين وعهدهم حيث أتاحت اتفاقية الحديبية للقبائل الدخول مع محمد ومع قريش..وأخبروه أن بني بكر حلفاء قريش قد هجموا عليهم ليلاً على ماء يقال له (الوتير) فساعدت قريش بني بكر حلفاءها بالكراع والسلاح.. فقال عليه الصلاة والسلام: (نصرت يا عمرو بن سالم.. ونظر في السماء فإذا عنانة في السماء) فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب..) يقصد حلفاءه.. لقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أن قريشاً بمناصرتها لحلفائها بني بكر على حلفاء المسلمين (خزاعة) قد نقضت بنداً مهماً من بنود صلح الحديبية فعزم عليه السلام على نصرة حلفائه واستكتم ذلك تعمية على قريش لمباغتتهم  

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟