تغريدات قبل 1400 سنة

بقلم : محمد عوض الله العمري

 

تويتر موقع تواصل اجتماعي وموقع إخباري على الإنترنت، حيث يتواصل الأشخاص في رسائل قصيرة تُسمى تغريدات، ينشرها المُستخدِم لأيّ شخص يتابعه، ويُمكن أن يُطلق على التغريدات اسماً آخر هو التدوين المصغر، ويُعدّ تويتر سهل الاستخدام والتصفّح؛ لأنّ كل تغريدة مُقيّدة بعدد محدد من الحروف وهي 280 حرفاً، بالتالي أصبح تويتر مشهوراً ومتداولاً بين الناس، وتمّت برمجة موقع تويتر عام 2006م من قبل (جاك دورسي، ونوح غلاس، وبيز ستون وإيفان ويليامز) وقد أُطلقَ فعليًا في يوليو من نفس العام. فلاقى الموقع شعبيةً كبيرة في جميع أنحاء العالم، وفي البداية كان تويتر برنامج رسائل قصيرة مجّانيّة.

وباختصار يستخدم الموقع فلسفة إيصال الرسائل بطريقة مباشرة وباختصار شديد من المرسل إلى المتلقي (المستهدف) والغرض الرئيس للشركة ربحي بامتياز، وتقاطعت معه مصالح المؤثرين حول العالم في إيصال أجندتهم وأفكارهم ورسائلهم.

لكن الذي ميز هذا النظام على غيره من الأنظمة والمواقع الأخرى هو المباشرة في النشر، بعبارات موجزة ومحكمة لها تأثيرها المباشر ووقعها القوي لدى المستقبل. وهذا هو محور حديثنا بعيدًا عن الدوافع الربحية والسياسية.

وهذا الأسلوب ليس جديدًا البتة، بل كان مستخدمًا قبل ما يزيد على 1400سنة، فقد استخدمه العرب وبالذات الخلفاء والحكام، وهو ما كان يعرف باسم (التوقيعات) وإن كانت بديناميكية مختلفة بعض الشيء إلا إن قصر العبارة وقوتها ومباشرتها وتميز حبكتها كانت الغاية المشتركة بين (تغريدات تويتر) و(التوقيعات). فالتوقيع المقصود ليس الإمضاء. فما التوقيعات؟

التوقيع كما عرفه ابن فارس في (معجم مقاييس اللغة) (يطلق في اللغة على سقوط شيء، يُقال: وقَعَ الشيءُ وُقُوْعًا فهو واقعٌ، والواقعة: القيامة لأنها تقع بالخلق فتغشاهم…، والنسر الواقع، من وقع الطائر، ويراد أنه قد ضم جناحيه فكأنه واقع بالأرض، ومَوقَعَة الطائر: موضعه الذي يقع عليه…، ووَقَعَ فلانٌ في فلانٍ وأوْقَعَ به)

وفي (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب) للبطليوسي “وأما التوقيع، فإن العادة جرت أن يستعمل في كل كتاب يكتبه الملك، أو من له أمر ونهي، في أسفل الكتاب المرفوع إليه، أو على ظهره، أو في عرضه، بإيجاب ما يسأل أو منعه”

وعرّف التوقيعات شوقي ضيف في (تاريخ الأدب العربي- العصر العباسي الأول) “التوقيعات عبارات موجزة بليغة تعود ملوك الفرس ووزراءهم أن يوقعوا بها على ما يقدم إليهم من تظلمات الأفراد في الرعية وشكاواهم، وحاكاهم خلفاء بني عباس ووزراءهم في هذا الصنيع، وكانت تشيع في الناس ويكتبها الكتاب …، وقد سموا الشكاوى والظلامات بالقصص لما يحكي من قصة الشاكي وظلامته، وسموها بالقاع تشبيها لها برقاع الثياب”.

واللغة العربية تحتمل الكثير من الدلالات اللفظية ذات الأبعاد المعنوية، إضافة إلى فن الإيجاز وهو أس البلاغة، وربما كانت التوقيعات منذ أيام الجاهلية لكن نظرًا لكون العرب في ذلك العصر يعتمدون المشافهة دون الكتابة فلم يوثق هذا الفن الأدبي.

وحين جاء الإسلام وتعلم الناس القراءة والكتابة وجدنا بعض صور التوقيعات، فقد روي أن رجلاً لحن في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “أرشدوا أخاكم فقد ضل”.

فعبارة (أرشدوا أخاكم فقد ضل) تحمل كل صفات التوقيعات.

ومنه ما جاء عن الخليفة  أبي بكر في توقيعه على رسالة خالد بن الوليد – رضي الله عنهما – وفقد كتب خالد إلى أبى بكر يستشيره في أمر الحرب فكتب له «احرص على الموت توهب لك الحياة»، راقت العبارة لخالد بن الوليد الذي لم يتوان في نشرها بين الجنود فكان لها الأثر العظيم.

ومن النماذج أيضًا كتب سعد بن أبي وقاص  إلى عمر- رضي الله عنهما- في بنيان يبنيه، فوقّع في أسفل كتابه: “ابن ما يكنّك من الهواجر وأذى المطر”

ووقع  علي بن أبي طالب إلى طلحة بن عبيد الله: “في بيته يؤتى الحكم”.

وفي العصر الأموي كثرت وفي العصر العباسي ازدهرت، بل أنشئت دواوين خاصة في بلاط الخلفاء كديوان الإنشاء، الذي خصه المؤرخ المصري ابن فضل الله العمري بكتاب كامل سماه (التعريف  بالمصطلح الشريف) شرح فيه رتب المكاتبات السلطانية وإجراءاتها وكيفية التوقيع على الرسائل الواردة إلى السلطان. وكذلك القلقشندي خص هذا الفن البديع في موسوعته «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» أوضح فيه ما يحتاج إليه موقّع الإنشاء من المواد وما يقتضيه من أصول ورسوم وأساليب.

ومن الأمثلة لبعض التوقيعات في العصر العباسي: وقع المنصور إلى أهل الكوفة وقد شكوا عاملهم:( كما تكونون يؤمّر عليكم)، ووقع الرشيد وقع إلى عامله في خراسان: (داو جرحك لا يتسع).

صحيح أن مصطلح (التوقيعات) كان عبارة عن شرح على المعاملات والمكاتبات الرسمية، لكنها تحمل نفس التقنية في الأسلوب الذي قلدها فيه تويتر.

توقيع (من تركه أهله استضافه القوم)

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟