
ستيني.. يتصابى
حين يبلغ الرجل نهاية الخمسين، ويبدأ مغازلًا الستين من السنين، يبدأ مرحلة التأرجح بين الشباب والشيخوخة، وربما لا يدرك ما بلغه من العمر، إلا من خلال تصرفات الآخرين تجاهه، وقد تبدأ هذه التصرفات بسماع كلمة “يا عم”! فتكون -رغم لطافتها وأدبها وما تحمله من كمية احترام- سهمًا سُدد من ماهر في الرماية.. أصاب فؤادًا مفعمًا بتعابير التأمل، ومتنقلاً بين تضاريس الحياة، مما ألف خلال العشرين عامًا المنصرمة، دون التفات لتتابع الليالي وتوالي الأيام.
سهم “يا عم”.. ربما يشكل الصدمة الكبرى، والبداية الأصعب لحالة التأرجح العُمْري!، والذي قد يلقي بصاحبه في غياهب الاضطراب، ويكون سببًا في الانكفاء على الذات والدخول لعالم الشيخوخة من أوسع الأبواب.
إضافةً لـ”يا عم”، قد تصادف الستيني بعض التلميحات والغمز واللمز من الشباب، حين يرونه يتأنق في الملبس والعطر وبعض مظاهر الموضة، ولم يأت أمرًا نكرا، إنما أتى بما أتوا به، فجلس في المقهى، وطلب مشروبه (المفضل عند شباب الموضة)، وأمسك بهاتفه، متصفحًا مواقع التواصل، راميًا بشوح عينيه كل المتواجدين، مدعيًا الجاذبية، فيسمع من بعيد من يقول (شوقر دادي)!، فيلتفت يمنة ويسرة، فيدرك أنه المقصود.
فتبدأ مرحلة التأرجح التي لا تتهادى أمواجها العاتية في أعماقه، حتى تقفز به سنوات إلى الأمام، فيجد نفسه يتهادى في مروج الشيخوخة.
من بلغ الستين في عصرنا هذا ليس كمن بلغها قبل ثلاثين سنة.. فنظام الحياة تغير نتيجة الرعاية الصحية والراحة الاجتماعية بكافة صورها: المعيشية والاقتصادية والأمنية والثقافية و…
وما تغير لون الشعر إلى البياض بدليل قطعي على دخول مرحلة وخروج من أخرى، وإنما الدليل هو المقدرة على العطاء.
والستون أخت للخمسين، يقول بدوي الجبل:
أتسألين عن الخمسين ما فعلت
يبلى الشباب وما تبلى سجاياه
المقياس الحقيقي للعمر ومراحله هو مدى القدرة على مواكبة قطار الحياة ومتغيرات الثقافة، أو العجز عن ذلك لأسباب مختلفة.
فإليك، أيها الستيني الشاب: طالما تجد في نفسك مقومات المضي والتعامل مع مقتضيات الحياة، فلا تستسلم لكل من يحاول أن يوقعك في شراك (التأرجح) المقيت، وانطلق محلقًا كالصقر الحر الذي يجوب الأفق باحثًا عن احتياجاتك الحقيقية التي تليق بك، فمن ذا الذي أوهم الناس بتحديد السلوكيات والتصرفات حسب المراحل العمرية؟!
وإليك، أيها الستيني الشاب: لا تتصرف تصرف المراهق الأرعن، وتمارس نفس التصرفات التي كان يمارسها أقرانك في سن مراهقتكم البائدة الآن!
فكم من منظرٍ مخجلٍ نرى البعض فيه، من خلال تصرفات غير لائقة وغير مسؤولة تصدر من ستيني يكاد يكون ملازمًا للمقاهي لغرض غير منطقي!
طباع الفتى ليست تشيب بشيبه
يشيب كثيرًا والطباع يوافع
ولا بأس من التعريج على التصابي من خلال كتب اللغة والأدب للفائدة والطرفة، فقد جاء في كتاب (خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب) للبغدادي:
صرمت وَلم تصرم وَأَنت صروم
وَكَيف تصابى من يُقَال حَلِيم
“وتصابي: مصدر تصابى: تكلّف الصبوة وَهُوَ الْميل إِلَى الْجَهْل والفتوة. يُقَال: صبا يصبو”
وجاء في كتاب (الأوراق.. قسم أخبار الشعراء) لمؤلفه أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي (ت ٣٣٥هـ)
يقول ابن رهيمة مولى عثمان بن عفان في زينب بنت عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام:
تصابيت أن بانت بعقلك زينب
وكيف تصابى الشيخ والرّأس أشيب.
وورد في (كتاب مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس) للفتح بن خاقان، في ترجمة الأديب أبو القاسم محمد بن هاني من ضمن أبيات:
والله لولا أن يُعنِّفُني الهوى
ويقول بَعْضُ العاذلين تَصَابى
لَكَسرْتُ دُمْلُجَها بضيقِ عِنَاقِهَا
ورشفتُ من فِيهَا البَرُود رُضَابا
ويقول النابغة الذبياني:
دَعاكَ الهَوى وَاِستَجهَلَتكَ المَنازِلُ
وَكَيفَ تَصابي المَرءَ وَالشَيبُ شامِلُ
وَقَفتُ بِرَبعِ الدارِ قَد غَيَّرَ الْبِلَى
مَعارِفَها وَالسارِياتُ الهَواطِلُ
أُسائِلُ عَن سُعدى وَقَد مَرَّ بَعدَنا
عَلى عَرَصاتِ الدارِ سَبعٌ كَوامِلُ
فَسَلَّيتُ ما عِندي بِرَوحَةِ عِرمِسٍ
تَخُبُّ بِرَحلي تارَةً وَتُناقِلُ
وما قول الكميت بن زيد في مطلع بائيته الشهيرة ببعيد:
طربت وما شوقًا إلى البيض أطرب
ولا لعبًا مني، أذو الشيب يلعب
هذا هو التصابي، أيها (الستيني الشاب)، لم أجد من يمتدحه وهو جاد، فهل تجد فيه ما يبرر تصرفاتك (السامجة)؟
عش حياتك، وفق ما يقتضيه الموقف، واحذر الانزلاق في وحل التصابي والحماقة، واعلم أن هناك أنظمة تكون ضدك إن تجاوزتها، واعلم أيضًا أن هناك وسائل توثيق متاحة وسهلة الاستخدام، وعليك أن تتذكر دائمًا أن وراءك من يراك أنموذجًا؛ كالزجاجة إن كُسرت فكسرها لا يُجبر.
قفلة:
أَلا يا قَلب ما لَكَ إِذ تَصابى
وَهَذا الشَيبُ قَد غَلَبَ الشَبابا
كَما طَرَدَ النَهارُ سَوادَ لَيلٍ
فَأَزمَعَ حينَ حَلَّ بِهِ الذَهابا
(جرير)