
في جادة قباء.. حينما يتكلم التاريخ
جادة قباء التي رسمها واقعاً واسماً وتاريخاً صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله وتابع خطوات تنفيذها بخطط محكمة ومكونات مدروسة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن خالد الفيصل بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة المدينة المنورة تعتبر تاريخاً ناطقاً بعمقها وفكرتها وأهدافها ومن خلالها تتجسد مواكب البطولات في مخيلة السائر بها..
فهي تختزن في داخلها وبين جنباتها تاريخ الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى تمد السائر فيها بشتى الأمجاد الإسلامية لهذه الدعوة إذ كلما فكر وتخيل واسترجع أي صورة أو بطولة يجدها حاضرة أمامه بكل تفاصيلها بعمق خاص وطعم مميز…
ففي شهر شوال من السنة الثانية للهجرة والمدينة تعيش أفراحها بانتصار دولة الإسلام في بدر هللت جادة قباء بانتصار جديد لنبي الرسالة وصحابته الكرام حيث استبشرت المدينة بدخول 500 بعير وغنائم أخرى إلى أرجائها من أموال بني سليم الذين علم الرسول عليه السلام بأنهم كانوا يخططون للغدر والاعتداء على المدينة فسار إليهم عليه السلام ولواؤهـ الأبيض بيد ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولما رأوا الجيش الإسلامي تفرقوا هاربين وتركوا أموالهم… وفي هذا نصر جديد أخزى الأعداء من اليهود والمشركين والمنافقين الذين كانوا يتربصون ويحطون من النصر المؤزر لدولة الإسلام في بدر…
وفي صبيحة يوم من أيام شهر ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة أذاعت جنبات جادة قباء مقتل الصحابي الجليل معبد بن عمرو الأنصاري وخادمه في حائطه بالعريض كما تناقلت الأخبار نبأ حريق في أصوار من النخيل في تلك الناحية بفعل قائد قريش أبي سفيان بن حرب الذي أتى إلى المدينة من الجهة الشرقية ومعه 200 من اتباعه حيث نذر أبو سفيان بعد هزيمة بدر أن لا يمس رأسه ماء من جنابه حتى يغزو محمداً في المدينة فوصلها بمن معه والتقى ببعض اليهود في جنح الظلام ومن ثم فعل فعلته وولى هارباً (براً بقسمه)، وما إن سمع الأصحاب بذلك حتى شهدت جادة قباء من كافة نواحيها جموعهم وقد تقلدوا السيوف أمام نبيهم عليه السلام وأكتفى منهم بمائتي صحابي وساروا بقيادته عليه السلام متعقبين تلك العصابة من قريش التي ولت هاربةً ونثروا زادهم من السويق للتخفيف عن رواحلهم حتى تسرع في الهرب وسجلت هذه في تاريخ الجادة بل في تاريخ الإسلام بغزوة السويق… لأن السويق كان زادهم في تلك الغارة والسويق لمن لا يعرفه هو (حب الدخن) يحمص ثم يطحن حتى يصير دقيقاً فيؤكل بعد إضافة الماء أو السمن إليه وهو زاد سريع ذو نكهة خاصة…
وعلى جادة قباء مشى دعثور بن الحارث المحاربي الذي كان سيداً مطاعاً في قومه والذي قاد قبيلتي ثعلبة ومحارب للإغارة على المدينة في غزوة (ذي أمر ..النخيل حالياً)، وهو يقص على بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر إسلامه حينما وجد نبي الهدى وقد ابتلت ثيابه من المطر فوضعها عليه السلام ووضع سيفه فباغته (دعثور) وأخذ السيف وقال ما يمنعك مني يا محمد فقال نبي الهدى عليه السلام (الله) ..فوقع السيف من يده فأخذه النبي الرحيم وقال لدعثور ما يمنعك مني قال: لا أحد.. وأنا أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله والله يا محمد لا أكثر عليك جمعاً…وتشرف بالمجيء الى المدينة مسلماً واختزنت جادة قباء معجزة خبر إسلامه رضي الله عنه وارضاهـ…
ومن جادة قباء سار النبي عليه الصلاة والسلام إلى بني قينقاع في سوقهم (سوق حباشة) قرب مزرعة الماجشونيه في وسط قربان اليوم واجتمع بكبارهم وذوي الرأي فيهم لما أشتد أذاهم وحقدهم وخياناتهم على المسلمين بعد غزوة بدر بالرغم من المعاهدة التي عقدها بينه وبين اليهود ومنهم (بنو قينقاع) يوم أن قدم المدينة وقال لهم في مسيره اليهم بالسوق محذراً (يا معشر يهود أحذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم) فأجابوه بصلف إجابةً تدل على الخيانة والغدر والعداء السافر للنبي ودولته قالوا: ( إنك تُرى أنا قومك… لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة… إنا والله لإن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس …,وإنك لم تلق مثلنا)ـ
وقد عرف الرسول عليه السلام من هذا القول أن النصح والمفاوضة لا تفيد مع هؤلاء اليهود… وفي اليوم التالي رأى الناس على مشارف جادة قباء الجيش المحمدي من المهاجرين والأنصار يسير عبر الجادة مهللين ومكبرين يتقدمهم حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه حامل اللواء وحاصرهم عليه السلام في ديارهم وحصونهم خمس عشرة ليلة حتى نزلوا على حكمه أذلاء صاغرين…
وبهذا خيمت سحابة أمن على المدينة بإنهاء وجود قبيلة بني قينقاع التي كانت بؤرة شر وعامل قلق وغدر في المدينة بما تملكه من المال والسلاح وبما اتصف به اليهود من الدسائس والخيانة…
وعلى جادة قباء مشى محمد بن مسلمة وأبو نائلة وعباد بن بشر والحارث بن أوس ليلاً إلى ذلك الطاغية كعب بن الأشرف الطائي النبهاني الذي تسيد في بني النضير أخواله اليهود واعتنق دينهم وغاظه الانتصار في بدر فشبب بالمسلمين ونسائهم وسار إلى قريش في مكة وتباكى معهم لقتلى بدر وردد معهم مقولته يوم أن رأى بشرى الانتصار يرددها زيد بن حارثة و عبدالله بن رواحه بالمدينة حيث قال كعب يومها، (واللهلإن كان محمد أصاب هؤلاء_ يعني صناديد قريش_ لبطن الأرض خيرُ من ظهرها) …
وعلم الرسول بمسيره وخططه مع كبار قريش في مكة وتأذى من لسانه وتشبيبه بنساء المسلمين فأمر الرسول بقتله وقال لأبن مسلمة ورفاقه (انطلقوا على اسم الله… اللهم أعنهم)
فمشى محمد بن مسلمه ومن معه رضوان الله عليهم بسلاحهم وقتلوا هذا الطاغية ليلاً وعادوا إلى نبيهم معانين بأمر رب العالمين منتصرين بدعوته عليه الصلاة والسلام…
وبقتله وئدت فتنة كبيرة وعقبة كأداء أمام دولة الإسلام في ذلك الوقت وبقتله أيضاً أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا مصير كل خائن وناقض للعهود والمواثيق مهما كانت مكانته ومهما علت منزلته…
وهكذا تروي لنا جادة قباء صوراً شتى ومشاهد عظيمة مجللةً بأنوار النبوة مفعمةً بالآثار والمواقف والأحداث مكتنزةً تاريخاً مشرقاً ينساب إلى خيالات وأفهام وعقول السائرين على الجادة على مر العصور والأزمان…