
من جادة قباء.. إلى أحد (2)
جادة قباء التي رسمها واقعاً واسماً وتاريخاً صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله وتابع خطوات تنفيذها بخطط محكمة ومكونات مدروسة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن خالد الفيصل بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة المدينة المنورة تعتبر تاريخاً ناطقاً بعمقها وفكرتها وأهدافها ومن خلالها تتجسد مواكب البطولات في مخيلة السائر بها..
فهي تختزن في داخلها وبين جنباتها تاريخ الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى تمد السائر فيها بشتى الأمجاد الإسلامية لهذه الدعوة إذ كلما فكر وتخيل واسترجع أي صورة أو بطولة يجدها حاضرة أمامه بكل تفاصيلها بعمق خاص وطعم مميز…
ومن بين ما يستشعر السائر في هذه الجادة ذلك اليوم العظيم في تاريخ المدينة المنورة… إنه يوم أحد حيث سجله التاريخ في جبين هذه المدينة العظيمة خاضه الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام لأصحابه الأبرار ضد الشرك وطغاته الذين أتوا إلى المدينة للقضاء على الدعوة وصاحبها ثأراً لمن فقدوا من صناديد قريش في يوم بدر…
وقد سار عليه السلام بألف رجل من موقعه الذي بات فيه (بالشيخين) موقع مسجد الدرع إلى ميدان أحد في يوم السبت الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة…
وفي ضحى ذلك اليوم شاهد الناس على جادة قباء رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول وهو من الخزرج شهدوه راجعاً من أرض المعركة ومعه 300 من اعوانه وأتباعه المنافقين الذين سيطر عليهم وأغراهم بالانسحاب يوم أن رأى الجيش القرشي بعدته وعتاده وقوته وحجته في الانسحاب أن الرسول لم يأخذ برأيه في البقاء في المدينة وهذا العدد الذي أنسحب مع أبن سلول يمثل ثلث الجيش النبوي وعند انسحابه ومن معه من أمام الجيش قال لهم الصحابي الجليل عبدالله بن حرام والد جابر بن عبدالله بأعلى صوته: (أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر عدوكم…)، ولكنهم اصروا على الانسحاب فقال لهم: (أبعدكم الله يا أعداء الله ورسوله فسيغني الله عنكم نبيه…)، وقد أنسحب أبن سلول بمن معه بعد أن رأى فشل خطةٍ رسمها مع ابن عمه (أبو عامر) الفاسق عندما رد رسول الله اليهود حلفاء عبدالله بن أبي عن القتال معه وقال عليه السلام: (إنا لا نستنصر بأهل الشرك على الشرك).
وعندما انسحب ثلث الجيش سرت موجة تخذيل في النفوس ولكن سرعان ما سيطر الإيمان والنخوة والوفاء بالعهد في أعماق كبار الأنصار من الأوس والخزرج في ذلك الموقف العظيم… ذلك الالتزام الذي التزموا به في بيعة العقبة والذي يحتم عليهم أن يمنعوا نبي الله مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم حمايةً ونصرة… وتردد بين كبارهم أن المدينة في هذه المرة تقصد في عقر دارها وتذكروا مقولة سعد بن معاذ يوم أن قال على مشارف بدر: (يا رسول الله لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق… وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجلُ واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً… إنا لصبر في الحرب… صدقُ في اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله…)
قال سعد هذه بعيداً عن المدينة فكيف يكون الحال وقد غزيت المدينة بجيش يريد أن يمحوها ويذل أهلها ويقتلع الدعوة من جذورها؟!
وفي صبيحة ذلك اليوم شاهد الناس على جادة قباء (مخيريق) وهو يهودي من بني النضير صاحب الأموال الطائلة في العالية شهدوه يمرُ من على الجادة حاملاً سيفه بعد أن حث قومه اليهود من بني النضير على الوفاء بعهدهم لرسول الله ونصرته فلم يطيعوه وعندما الح عليهم قالوا: إن اليوم سبت ونحن لا نقاتل في السبت، فقال: لا سبت لكم…وأخبركم بأنني آمنت بمحمد وسوف أقاتل معه فإن قتلت فأموالي لمحمد يضعها حيث يشاء… ووصل مخيريق إلى أرض المعركة وقاتل مع المسلمين قتالاً شديداً وعندما استشهد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (مخيريق خير يهود… أو سابق يهود…).
وفي يوم المعركة رأى المسلمون بالمدينة في مسار جادة قباء أصيرم بن عبد الأشهل واسمه (عمرو بن ثابت) الأنصاري وقد عرف بمعارضته للإسلام وعدم إسلامه مع قومه… رأوه يحملُ سيفه وينطلق مسرعاً إلى أتون معركة أحد… وقد ظن الناس أنه انطلق من معاداته للإسلام فإذا به يقاتل مع النبي وصحبه… وقتل في ذلك اليوم وقال النبي فيه (هو من أهل الجنة…) ولم يسجد لله سجدةً واحدة رضي الله عنه وأرضاه…
وعلى جادة قباء سمع حنظلة بن أبي عامر من الأوس ببدء معركة أحد وهو في صبيحة ليلة عرسه فخرج مسرعاً على هذه الجادة حاملاً سيفه ولم يتمكن من غُسل الجنابة لحرصه على الإشتراك بالمعركة لنصرة الرسول وصحابته الكرام… وحنظلةُ هذا هو ابن عمرو بن صيفي (الفاسق) الذي أراد أن يخذل الأوس عن نصرة الرسول فقاتل حنظلة رضي الله عنه حتى استشهد فقال فيه عليه الصلاة والسلام : (إن صاحبكم لتغسله الملائكة…) وسمي بعد ذلك بحنظله غسيل الملائكة…
ومن جنبات جادة قباء في يوم أحد سار وهب بن قابوس المزني وابن أخيه الحارث بن عقبه بن قابوس بغنمهما قاصدين سوق المدينة فوجداها خاليةً من الرجال فسألا…فقيل لهما اليوم أتت قريش تقاتل المسلمين في أحد فأسلما على الفور وانطلقا إلى أرض المعركة وانضما إلى الجيش الإسلامي دفاعاً عن المدينة ونصرةً للرسول وصحابته الكرام…
ومن على بساط جادة قباء وصل عمرو بن الجموح (وكان سيداً من سادات بني سلمة) ومعه أبناؤه الأربعة إلى ميدان معركة أحد وهم يمنعونه من المشاركة في القتال وهو يقول: يا رسول الله لقد منعوني من الخروج إلى بدر واليوم هاهميحاولون منعي من أحد (والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة) فرد عليه السلام له قائلاً: أما أنت فقد عذرك الله ولا جهاد عليك… فألح وبكى فقال الرسول لأبنائه لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة… ويفرح بن الجموح بهذا ويهزُ سيفه وينضم إلى الجيش الإسلامي ومعه أبناؤه الأربعة خلاد ومعوذ ومعاذ وأبو أيمن… ويستشهد بن الجموح ويقول فيه عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفسي بيده لقد رأيت عمرو بن الجموح يطأ في الجنة بعرجته…)
وفي ميدان أحد وقف النبي بصحابته وعددهم 700 مقاتل يقابلهم ثلاثة الاف من جيش الكفر والطغيان وأختار عليه الصلاة والسلام لصحابته موقعاً جعل جبل أحد يظلهم من خلفهم وصفهم صفوفاً متوالية في ساحة الوادي وجعل في مقدمة الصف الأول أبا بكر وعمر وعلي وحمزة وعبدالله بن جحش ومصعب بن عمير وسعد بن معاذ وسعد بن الربيع وأبا دجانة وانس بن النضر والمقداد بن عمرو والزبير بن العوام وسلم اللواء لمصعب بن عمير وقال: ( لا تبدأو حتى أمركم…) كما جعل لهم جميعاً كلمة سر يعرف بعضهم بعضاً في أتون المعركة (أمت…أمت)
وأختار خمسن رامياً بقيادة عبدالله بن جبير بعد أن علمه بثياب بيض على جبل الرماة المعروف اليوم في ميدان أحد وقال عليه الصلاة والسلام ( أنضح الخيل عنا بالنبل لايأتونامن خلفنا إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك لانؤتينا من قبلك…) وسلم لواء الأوس لسيدهم أسيد بن حضير كما سلم لواء الخزرج للحباب بن المنذر…
وأمام الصفوف وعند التعبئة والتنظيم لهذا الجيش الإسلامي شاهدوا نبيهم يخرج سيفاً صقيلاً وهو يقول: ( من يأخذ هذا السيف بحقه؟) فطلبه عدد ممن كان في الصف الأول فلم يجبهم حتى برز أمام الجميع الصحابي الجليل أبو دجانه (سماك بن أوس) الأنصاري وهو من بنيساعده من الخزرج وقال يا رسول الله وما حقه؟ قال أنتضرب به العدو حتى ينثني أو ينحني… قال: أنا أخذه بحقه فأعطاه إياه
وشاهدت جنبات أحد أبا دجانه وهو يأخذ سيف رسول الله وينظر إليه بإعجاب وفخر وعلى الفور يخرج عصابته الحمراء (التي يسميها عصابة الموت) والتي اعتاد أن يعصب بها رأسه في الحروب ويمشي مشية الخيلاء بشجاعةٍ وشرف وهو يرددأنا الذي عاهدني خليلي… ونحن بالسفح لدى النخيلِ… أن لاأذم الدهر في الكيولِ… أضرب بسيف الله والرسولِ… وينظر إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم في مشيته بخيلاء واستعلاء ويقول: (إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن…)
وفي قمة الاستعداد للمعركة يسمعُ كلُ من بالساحة صوت أبي سفيان بن حرب قائد جيش قريش وهو يقول بأعلى صوته: يا معشر الأوس … يا معشر الخزرج … خلو بيننا وبين بني عمنا ننصرف عنكم فإنه لا حاجة لنا بقتالكم…وعرف الأنصار أن أبا سفيان يريد من هذا تفريق الكلمة ونقض ما عاهدوا الله عليه ورسوله فردوا عليه بما يكره…
وما إن سمع الناس الرد على أبي سفيان حتى جلجل المكان بصوتٍ آخر ذلكم صوت أبي عامر عمرو بن صيفي (الراهب) الذي سماه النبي (الفاسق) والذي كان سيداً في الأوس ثم خرج بعد غزوة بدر إلى مكة محرضاً ومشجعاً لقريش على حرب محمد في المدينة حيث نادى هذا الفاسق من معسكر قريش قائلاً: يا معشر الأوس… أنا أبو عامر وعلى الفور رد عليه الأوس لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق ثم رموه بالحجارة هو ومن أحاط به من المشركين حتى ولو هاربين…
وشاهدت جنبات أحد ذلك التنظيم الذي وضعه أبو سفيان لجيشه حيث جعل ميمنة جيشه بقيادة خالد بن الوليد وميسرته بقيادة عكرمة بن أبي جهل وعلى المشاة صفوان بن أمية وعلى الرماة عبدالله بن أبي ربيعة ثم سمع كلُ من بالوادي صوت أبي سفيان وهو يوجه نداءه إلى بني عبدالدار حملة لواء قريش في معاركها قائلاً لهم أمام الملأ لتحفيزهم وحثهم على الاستماتة: ( يا بني عبدالدار… إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم … وإنما يؤتى الناس من قبلُ راياتهم …إذا زالت زالوا … فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلو بيننا وبينه فنكفيكموهـ …) فهمو به وتواعدوه وقالوا في سخرية نحن نسلم إليك لواءنا؟! ستعلم إذا التقينا كيف نصنع … وذلك ما أراد أبو سفيان لأن بني عبدالدار هم حملة لواء قريش في معاركها لا يتنازلون عنه ولا يسلمونه لغيرهم ويعدون تخليهم عنه أو تسليمه لغيرهم سُبة الدهر ولذلك سقط تحت ذلك اللواء في يوم أحد عشرةً منهم إذ كلما أستلمه واحدُ منهم قُتل…
وشاهدت ساحة أحد نساء مكة خلف صفوف الرجال وعلى رأسهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة زوجة الحارث بن هشام وغيرهن ممن أتينا من مكة لإثارة الحماس والغيرة يضربن بالدفوف ويرددن: ( ويها بني عبدالدار… ويها حماة الديار… ضرباً بكل بتار…) وأخريات خلفهن يرددن أيضا: (إن تقبلوا نعانق… ونفرش النمارق… أو تدبروا نفارق… فراق غير وامق…) وأهازيج أخرى … تجعل الرجال يستميتون من أجل الظفر والانتصار…
كل هذه الصور وغيرها اختزنتها جادة أحد وقد سجلتها جنبات ساحة أحد على مر العصور والأزمان وللسائر في ساحات الجادتين في قباء وأحد وعلى زائر شهداء أحد أن يتصور ذلك الموقف الرهيب وتلك الخطط والاستعدادات لخوض معركةٍ غير متكافئة ولكن النصر بيده سبحانه وهو يتولى المؤمنين وينصر الصابرين الصادقين ويعلي كلمته ويذل أعداءهـ…