بنات المدينة .. عندما كتب عنهم الباحثون

بقلم الباحث التاريخي أ/ فؤاد المغامسي

إن الحديث عن المدينة المنورة وعن أهلها لا يمل, و الكتابة عنهم لها بريق وفن , فالمدينة هي المحبورة المختارة هاجر إليها خير البشر ﷺ وسكنها الأنصار والمهاجرة , ثم توافد الناس تشرفاً ومجاورة فكثرت الأعراق وتعددت العادات, وامتزجت الأجناس فكونوا نسيج سكاني فريد ومن هذا المزيج برزت الفتاة المدينية ذات الأناقة والذوق و صاحبة الأدب والأخلاق .

يقول أحد الرحالة المستشرقين الذين زاروا المدينة المنورة في منتصف القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي عندما سكن عند مضيفه عدة أسابيع في حي المناخة بالقرب من الباب المصري, ووصف المنزل الذي سكن فيه وكيف كان صغيراً جداً ورغم هذا الصغر إلا أنه قال (ولم تقع عيني ولو مرة واحدة على وجه إمرأة ) ويذكر أنه عندما تحدث إلى جاريتين أفريقيتين تحدثا معه ولم يتخليا أبداً عن مظهر الخجل والحشمة ويقول أنه حتى لم يسمع همساً للنساء ولم يرى شابات الأسرة اللائي كن يقمن دوماً في نفس المنزل ولو لمحاً .

وكان لنساء المدينة عادات جميلة تدل على البساطة والذكاء وتدل على أن المجتمع المديني كان أسرة واحدة وأن الجيرة لها شأن كبير لا تتجسد فقط في حضور المناسبات كالأفراح والأتراح بل بالقيام فيها والتجهيز لها ويطلق على ذلك (القومة) أو ( الفزعة ) مع أهل المناسبة الذي يطلق عليهم (أهل النوب), ومن أمثلة ذلك ما ذكره السيد ياسين الخياري أن من عادات أهل المنزل في المدينة والتي تدل على تكاتف الجيران كالأسرة الواحدة في الحارة -الحوش -أنه من المتعارف عليه بين العوائل أن صوت الهوند -الهاون، النجر- في الدار ليلاً دلالة على وجود أمرين الأول: حالة ولادة , والثاني : وجود مريض , فإذا سمع صوت دق الهوند في دار بعد المغرب أو في وقت في الليل تجد جميع الأسر ترسل أبنائها للاستفسار عن السبب فإذا كان السبب هو وجود ولادة تجد أغلب النساء الكبيرات في السن تهرعن إلى ذلك البيت للمساعدة والقيام بالواجب حتى تتم الولادة بسلامة الله .

أما في حالة وجود مريض فتجدهن يهرولن على ذلك البيت للمساعدة وتقديم ماهو متوفر لديهن من علاج أو وصفة مجربة ولا يخرجن إلا بعد اطمئنانهن على المريض.

ويذكر أحد الباحثين في رسالته العلمية عن الدور التربوي للمسجد النبوي عندما تحدث عن الاحتفالات في الكُتاب, أن لأهل المدينة عادة جميلة عند إتمام البنت حفظ جزء من القران أو ختمته حيث يذكر(في احتفال الصرافة يأتي أهل الفتاة ومعهن تباسي مليئة بالورد والفل والنعناع وفوقه حلوة ثم تبدأ الفتاة بقراءة سورة الضحى بعد لك توزع الحلوى على الفتيات ثم تصرفهم الخوجة – ويقصد بالخوجة هنا المعلمة – ويقدم أهل الفتاة للمعلمة بعض الهدايا ومبلغاً من المال) .

ويصف احتفال الصرافة بأن تأتي الفتاة وهي ترتدي ثوباً أبيضاً وعلى رأسها طرحة وعليها تاج مرصع بفصوص من الماس وتدخل الطالبة وأهلها ويرحب بهن الفتيات الموجودات في الكتاب بأناشيد ومنها :

أهلا وسهلاً مرحباً

آنستمونا ياكرام

الله يعلي قدركم

ويزيدكم كل اهتمام

ثم تفتح الفتاة المصحف وتقرأ من سورة تبارك وتقوم بعض الفتيات بإلقاء الخطب لتشجيع الفتاة بعد ذلك توزع بعض الحلويات على الطالبات ويصطحب أهل الفتاة الخوجة – المعلمة – وبعض الفتيات الكبيرات لتناول طعام الغذاء في بيت الفتاة .

وأما في احتفال ( الختم ) إذا أتمت حفظ القران كاملاً تحضر الفتاة لابسة ثوباً أبيض وعلى رأسها تاج مرصع بالأحجار الكريمة أو مطرز بالقصب الأصفر ثم تنظم المعلمة مسيرة الفتيات بحيث تكون الفتاة التي ختمت القرآن في المقدمة وعند وصولهن منزل الفتاة ودخولهن تستقبل الفتاة من قبل أهلها وخلفها الخوجة والفتيات ثم يجلسن ويرحب وتقرأ الفتاة سورة البقرة ثم تلقي الخطب والقصائد والأناشيد ومن ذلك :

طرقنا باب مولانا

كريماً ليس ينسانا

وصدقنا بما جانا

والصادق رسول الله

محمد قال ياربي

سؤالي أمتي بعدي

سامحهم من الذنب

وغفار الذنوب الله

ثم توزع بعد ذلك الشراب التوت الأحمر (الشربيت) وشراب الليمون أو البرتقال أو شراب الرمان أو خلافه وتعطى الهدايا والنقود , وهذه الاحتفالات تختلف من أسرة لأسرة بحسب إمكانياتها المادية فنجد بعض الأسر تقيم احتفال بسيط جداً ومختصر وكما أن المعلمة لا تأخذ نقود منهم تقديراً لوضعهم وظروفهم .

هذه نماذج بسيطة وقليلة عن بنات المدينة وأهلها , فالبنت المدينية هي كل الأدب والذوق والرقة فالعادات الاجتماعية ذات القيم والأخلاق النبوية كانت تتسم في تصرفاتهم فقد تلقوها ببساطتهم وطيبتهم وزرعوها في حياتهم فنبتت لهم أفضل الزهور.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟