في جادة قباء .. حينما يتكلم التاريخ

جادة قباء التي رسمها واقعاً واسماً وتاريخاً صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله وتابع خطوات تنفيذها بخطط محكمة ومكونات مدروسة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن خالد الفيصل بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة المدينة المنورة تعتبر تاريخاً ناطقاً بعمقها وفكرتها وأهدافها ومن خلالها تتجسد مواكب البطولات في مخيلة السائر بها..

فهي تختزن في داخلها وبين جنباتها تاريخ الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى تمد السائر فيها بشتى الأمجاد الإسلامية لهذه الدعوة إذ كلما فكر وتخيل واسترجع أي صورة أو بطولة يجدها حاضرة أمامه بكل تفاصيلها بعمق خاص وطعم مميز

ففي مساء يوم السبت الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة شهدت جادة قباء نبي الهدى صلى الله عليه وسلم وقد دخل المدينة بصحابته الكرام وجراحات بعضهم تنزف دماً بعد يوم مشهود سجله التاريخ واحتفظت بتفاصيله ساحات وسفوح جبل أحد العظيم ترويه للأجيال القادمة على مر العصور والأزمانوقبل أن يغادر الرسول عليه الصلاة والسلام ساحة القتال وقف على فرسه وصحابته من خلفه صفوفاً ومن خلفهم النساء اللاتي اشتركن في معركة أحد واستقبل القبلة وقال مناجياً ربه سبحانه وتعالى: (اللهم لك الحمد كله.. اللهم لا قابض لما بسطت ولا مانع لما أعطيت.. ولا معطي لما منعت.. ولا هادى لما أضللت ولا مضل لما هديت.. ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت.. اللهم إني أسألك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك.. اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.. اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف والغنا بعد الفاقة عائذاً بك اللهم من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت عنا.. اللهم توفنا مسلمين.. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان..واجعلنا من الراشدين.. اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك.. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق..)

وعلى جوانب جادة قباء يدخل الجيش الإسلامي المدينة مع مغرب ذلك اليوم.. وقد نزلت على نبي الهدى صلى الله عليه وسلم آيات يعاتب رب العزة والجلال المؤمنين على مخالفتهم لأمر رسوله عليه الصلاة والسلام  ويذكر أن ما أصابهم في يوم أحد كان بسبب مخالفة أمر نبيه.. وذكر سبحانه بأنه قد عفا عنهم بفضله ورحمته وكرمه.. وليلتها تجلت العديد من الصور الإيمانية يوم أن وصل الرسول وصحبه ساحات مسجده العظيم.. وبات الكثير من الأنصار في تلك الليلة بالمسجد النبوي الشريف وعلى أبوابه يحرسون نبيهم خوفاً من عودة قريش إلى المدينة

ويوم أن مشى أصحاب الرسول على جادة قباء في عودتهم من غزوة أحد شَمَتَ بهم المنافقون وبدأوا إرجافهم من جديد وعلى رأس أولئك عبدالله بن أبي بن سلول وكذلك اليهود وبعض الأعراب الذين يحيطون بالمدينة وأدرك الرسول وكبار الصحابة ذلك.. وليلتها كانت المدينة مهددة من هذه الفئات الشامتة وكذلك الخوف من قريش أن تعود إلى المدينة لتعزيز موقفهم وتحقيق أغراضهم في القضاء على المدينة ومن فيها من الأنصار والمهاجرين

وفي الصباح من يوم الأحد اليوم التالي للمعركة دوت جنبات جادة قباء النفير الجديد الذي أمر به الرسول في عالية المدينة وسافلتها لمطاردة المشركين وإثبات القوة أمامهم وأمام المنافقين واليهود والمتربصين من الأعراب استمع الأصحاب إلى نبيهم واجتمعوا حوله وجراح بعضهم لا تزال تنزف ومتاعبهم لم تنته واشترط النبي العظيم أن لا يخرج معه لتعقب الجيش القرشي إلا من شهد معركة أحد بالأمس

وشهدت جادة قباء مسار النبي الكريم بصحابته مع الصباح الباكر وقد علت أصواتهم بالتهليل والتكبير واتجهوا إلى غرب المدينة وعسكروا في حمراء الأسد على بعد ثلاثة أميال من المدينة على ضفاف وادي العقيق الغربية .. وهناك وجد الجيش الإسلامي كلاً من معاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية وهو من كبار رجالات قريش وساداتها والشاعر (أبو عزة الجمحي) وهذا كان من أسرى بدر الذي منّ عليه النبي الكريم فأطلق سراحه لفقره وقد عاهده حينذاك أن لا يقاتل الرسول ولا يظاهر عليه فنقض عهده وأتى مع قريش في أحد فطلب أبو عزة العفو مرة ثانية ولكن قال له الرسول:

(والله لا أدعك تمسح عارضيك في مكة وتقول خدعت محمداً مرتين..) ثم أمر الرسول بقتلهما وعلى بساط حمراء الأسد انتشر الأصحاب وبنوا خيامهم وأوقدوا النيران بتوجيه من نبيهم الكريم لتناقل الأخبار ولإرهاب الأعداء وقد مر بهم أبو معبد الخزاعي واسمه (حبيش) وهو زوج أم معبد التي مر بها الرسول في هجرته رأى أبو معبد كثرة النيران ولمح في نفوس الأصحاب علو الهمم والرغبة الأكيدة في لقاء قريش إن عادت إلى المدينة للثأر منهم.. وأدرك أبو معبد الجيش القرشي في الروحاء وأبو سفيان يجمع أمره للرجوع إلى المدينة ولما رآه أبو سفيان أسرع إليه يسأله فقال: لقد خرج محمد يطلبكم في جمع لم أرى مثله قط يتحرقون عليكم تحرقاً ووالله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل وأنا أنهاك عن العودة إلى المدينة فخاف أبو سفيان وعدل عن الرجوع بعد استشارة كبار قادته

ثلاثة أيام بلياليها مكث الجيش النبوي بحمراء الأسد ونيرانهم تعلن النصر المؤزر وتبعث الرسائل لكل الشامتين والحاقدين والمتربصين وبعدها ضجت جادة قباء تهليلاً وتكبيراً بعودة جيش أحد النبوي بمعنويات عالية وقد محت غزوة حمراء الأسد هذه الشيء الكثير من شماتة اليهود والأعداء ووصلت الرسالة إلى قريش مغلفة بقتل معاوية بن المغيرة بن العاص والشاعر أبو عزة الجمحي وخيمت على أرجاء جادة قباء هيبة وجلال ونصر جديد

وعلى جادة قباء سار النبي عليه الصلاة والسلام إلى يهود بني النضير بأصحابه الكرام في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة وكانت أغلب مساكنهم شرق قباء على وادي مذينيب حيث رأى عليه السلام منهم صنوف الغدر والخيانة مع أنهم قد عاهدوه على الالتزام والوفاء والنصرة ولكن الخيانات توالت منهم والتآمر مع الأعداء وصارت المدينة تتخوف من غدرهم ونقض عهودهم باتفاقاتهم السرية والعلنية مع قريش ومع المنافقين في داخل المدينة وهموا في أخر الأمر بقتل النبي عليه السلام بإلقاء (الرحى) عليه من على سطح منازلهم عندما أتاهم يستعين بهم في دية القتيلين العامرييناللذين قتلا ضحية جهل عمرو بن أمية الضمري بجوار رسول الهدى عليه الصلاة والسلام

نزل النبي بساحاتهم وحاصرهم ست ليال وبقوا صامدين خلالها بتأثير رأس المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول ومن شايعه مغرينهم بنصرتهم والوقوف معهم وقد عرف اليهود كذبابن سلول وأصحابه وقذف الله في قلوب اليهود الرعب ولذلك طلبوا العفو من رسول الله ونزلوا على حكمه فوافق على أن يخرجوا من المدينة ويحملوا أمتعتهم وأموالهم على الإبل دون السلاح فخرجت ضعائنهم في يوم مشهود من أيام المدينة وبقى منهم نفر أسلموا واحتفظوا بأموالهم وذراريهم..وبخروجهم خلت المدينة من بؤرة شر كانت مصدر إزعاج وقلق لدولة الإسلام الناشئة التي يتربص بها الأعداء من كل جانب

ومن جادة قباء في شهر شوال من السنة الرابعة للهجرة خرجت رايات الأنصار والمهاجرين بقيادة نبيهم عليه الصلاة والسلام وقد كان عددهم 1500 صحابي لموعد بدر الذي نادى به أبو سفيان بن حرب وهو يرتحل من أحد والذي قال فيه: (إن موعدكم ببدر العام القادم) حيث مرت السنة ووفى عليه السلام بوعده عندما قال: (هو بيننا وبينكم موعد) ووصل الجيش الإسلامي بدراً وبقى في انتظار قريش ووصلت أخبار جيش أبي سفيان بسيره من مكة وكان عددهم 2500 مقاتل ولما وصلوا (وادي فاطمة) مر الظهران على بعد 40كم من مكة عقد أبو سفيان مجلساً لكبار قادته فرأوا العودة إلى مكة بحجة أن هذه السنة مجدبة ولكن الرسول بقى في بدر بصحابته عشرة أيام ينتظرون قدوم أبي سفيان بجيشه ثم عاد إلى المدينة وتأكد لدى الأعراب ولدى قريش قوة الجيش الإسلامي ووفاء نبي الهدى للوعد واستقبل هذا الجيش بمثل ما ودع به من الفرح والتهليل والتكبير في كل جهات المدينة لأن رجوع أبي سفيان بجيشه وإخلاف وعده يعتبر نصراً جديداً للمدينة وأهلها

وفي أحد صباحات جادة قباء أجتمع أربعمائة من الأنصار والمهاجرين حول نبيهم وهو يخبرهم بتجمع قبائل غطفان للهجوم على المدينة فسار الجيش المحمدي لغزوة سميت في التاريخ بغزوة ذات الرقاع لأنها كانت في شدة الحر وقد لف بعض الأصحاب (الخرق والرقاع) على أرجلهم وقال فيها أبو موسى الأشعري: (خرجنا مع النبي وقد اجتمعنا ستة نتعقب ركوب بعير واحد وقد نقبت قدماي وسقطت أظافري وكنا نلف على أرجلنا (الخرق) فسميت بغزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب بالخرق على أرجلنا واجتاز الجيش النبوي وادي الشقرة في شرق المدينة ثم وادي بطن نخل (الحناكية اليوم) ولما رأى الأعداء ذلك تفرقوا على رؤوس الجبال وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام (.. نصرت بالرعب مسيرة شهر..) وفي هذه الغزوة صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف لأول مرة وعاده إلى المدينة دون مواجهة مع قبائل غطفان ولكن صلاة الخوف طبقت عملياً في هذه الغزوة

وعلى جادة قباء مشى سباع بن عرفطة الكناني الغفاري والي المدينة من قبل نبي الهدى عليه الصلاة والسلام يتفقد أحوال المدينة ويتحسس نوايا الأعداء المحيطين بها وسباع هذا صحابي جليل من غفار وهو ليس من الأوس ولا من الخزرج ولا من قريش بل من قبيلة غفار التي ناصبت المدينة العداء في مواقف كثيرة وقد ولاه النبي عليه الصلاة والسلام على المدينة في غزوة دومة الجندل التي مشى اليها وحوله ألف رجل من أصحابه يسيرون بالليل ويتخفون بالنهار تعمية على تلك القبائل التي اجتمعت في تلك الناحية والتي أكدت الأخبار للهادي البشير أنهم تجمعوا لغزو المدينة وقد سار عليه السلام بصحابته إلى دومة الجندل خمس عشرة ليلة ولما وصلها تفرق جمعهم وأقام بها أياماً وبعث سراياه في كافة نواحيها فلم يلق حرباً بها وقذف الله في قلوبهم الرعب وتركوا الكثير من الماشية والأموال فغنمها المسلمون وعادوا بها إلى المدينة بعد غياب النبي قرابة الشهر ووادع في غزوة دومة الجندل عيينة بن حصن الفزاري ويكنى أبا مالك وكان من صناديد العرب جرئ اللسان والقول وعاد الجيش النبوي من هذه الغزوة البعيدة التي كانت مليئة بالمصاعب وقطعوا خلالها قرابة الألفي كيلو ذهاباً وإياباً بعقيدة راسخة وإيمان عميقإنها النبوة التي سيرت هذا الجيش وتركت المدينة تحت ولاية رجل غريب عنها رغم ما يحيط بها من عداوات اليهود والمنافقين وكفار قريش وغيرهم من الأعراب والمتربصين والمغرضين وهكذا تروي لنا جادة قباء صوراً شتى ومشاهد عظيمة ومواقف كبيرة مجللة بأنوار النبوة مفعمة بالآثار والمواقف والأحداث.. مكتنزة تاريخاً مشرقاً ينساب إلى خيالات وأفهام وعقول السائرين على الجادة على مر العصور والأزمان  

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟