لماذا الشعر (النبطي)! (2)

في الحلقة السابقة كتبت عن بعض ما كُتب عن (النبطي) وسبب تسمية الشعر العامي في الجزيرة العربية وما جاورها بـ (الشعر النبطي). واستكمالاً للأنباط ولغتهم فإن لغتهم الأصل هي الآرامية ولكونهم في موقع جغرافي تجاري خوّلهم الاختلاط بغيرهم من أهل اللغات المختلفة من عرب الجزيرة العربية والروم والفرس وغيرهم ولأنهم وإن تلاشت مملكتهم إلا إن النبط أو الأنباط كأمة متواجدون وتداخلوا مع القبائل العربية، ولكن لغتهم تميزهم لذلك يقول الجاحظ في (البيان والتبيين) “… لأن النبطي القح يجعل الزاي سيناً، فإذا أراد أن يقول: زورق، قال: سورق، ويجعل العين همزة، فإذا أراد أن يقول: مشمعل، قال: مشمئل”.

وكما ذكرت سابقًا قول المعري  : (اِستَنبَطَ العُربُ في المَوامي     بَعدَكَ وَاِستَعرَبَ النَبيطُ)

وحول الشعر يقول ابن خلدون “فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأغاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه … وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون.”

كقول المرأة الحورانية: (تقول فتاة الحي ام سلامه     بعين اراع الله من لا رثا لها)

وقول صادق بن رديني: (يقول الرديني والرديني صادق   يهيي بيوت محكمات طرائف)

وقول فيصل بن محمد الجُميلي من أمراء بني هلال في القرن العاشر:

قول الجميلي والجميلي فيصل   وانا موقف ٍ والدمع جاري وحايم)

وقلدهم من جاء بعدهم كـ (يقول الخلاوي والخلاوي راشد  …)

ومن النماذج القديمة لهذا الشعر ما أورده الدكتور الصويان من قصيدة لـ (أبو حمزة العامري)

والذي يقول عنه “لا نجد في قصائد أبي حمزة ما يشير بشكل قاطع وواضح إلى زمنه أو يحدد موطنه أو قبيلته أو يلقي أي ضوء على شخصيته التي نجهلها تماما. إلا أنه يرد في أحد قصائده اسم كبش بن منصور بن جماز الذي يحتمل أنه كبيش بن منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنا الشريف الحسيني الذي ولي إمارة المدينة المنورة سنة 725هـ حتى مقتله سنة 728هـ، أي قبل ولادة ابن خلدون”.

وقد وردت كلمة (نبط) في قصيدة أخرى له يقول الدكتور سعد الصويان ” وكما أشرنا في معرض الحديث عن مسمى الشعر النبطي، ترد في قصيدة أخرى من قصائد شفيع أبي حمزة التي لم يسبق نشرها والتي يتغزل فيها بمعشوقته أميم كلمة نبطي في البيت قبل الأخير للإشارة لهذا الشعر الذي نتحدث عنه. إذا صحت هذه القرائن التاريخية وصح أن كبيش بن منصور بن جماز، شريف المدينة الذي قتل عام 728هـ، أي قبل ولادة ابن خلدون، هو الذي عاصره أبو حمزة العامري ومدحه فإن هذا يعني أن الشعر النبطي كان شائعا منذ القرن السابع، وربما قبل ذلك

زار الخليل خليل قاصى المنزلِ     يحدى إلى خفق السماك الأعزلِ

وقوله في البيت الحادي والخمسين من نفس القصيدة

كبش بن منصور بن جمّازٍ ومن حاش المروّه قبل عقله يكمل

وقول في أبيات لاحقة: يا كبش جيت بدرّةٍ مصيونةٍ   عن من سواك بها نشح ونبخل

 ما قلتها يابن الشريف تحيّل     في مالكم لو كان صعبه يسهل

وهنا ترد كلمة (نبطي) كاسم يطلق على هذا الشعر كانت مستخدمة منذ ذلك الوقت يقول أبو حمزة العامري:

طرقت أميمٌ والقلاص سجودا والنجم هاوي كنه العنقودا

وهي قصيدة مطولة تبلغ 70 بيتًا يقول في البيتين الثامن والستين والتاسع والستين:

الله من بيت وقصيدة شاعر    عند الأمور المعضلات حميدا

    كالدر إلا أنها   (نبطية)       تحلى على التكرير والترديدا

من خلال مختصر الطرح السابق يمكن القول بأن الشعر النبطي عرف بهذا الاسم منذ أن قيل في بداياته، وإنما الاختلاف حول سبب ونسبة التسمية إلى النبطي.

وعلى العموم (لا مشاحة في الاصطلاح) طالما الفكرة واضحة ومعلومة بأن الشعر بهذه اللهجة لم يخرج عن دائرة الشعر الفصيح القديم في معانيه وبلاغته وصوره وعاطفته وخياله وأوزانه وقوافيه-وإن زادت عنه- وإنما التغير طرأ على قواعد الإعراب والصرف تماشيًا مع واقع حديث عامة الناس.

(بيوت القصيد الندر.. أحذر من الغزلان   قوانيصها يلحقهم ارهاق.. وكلوفه) *لافي الغيداني

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟