لماذا دموع التماسيح؟!

التمساح كما ورد في (كتاب معجم اللغة العربية المعاصرة) لـ(أحمد مختار عمر)

حيوان برمائيّ من رتبة التمساحيّات وفصيلة الزواحف، كبير الجسم، طويل الذَّنَب، قصير الأرجل يغطي جسمه تُرْس متين كتُرس السّلاحف، مؤلّف من فلوس قرنيّة متّصل بعضها ببعض. دُمُوعُ التَّماسيح (مَثَل): يُضرب لمن يتباكى ويتظاهر بالحزن لأن التَّماسيح تسيل دموعها وهي تلتهم فريستها.

هذا هو القول الشائع عالميًا جاء من الأساطير اليونانية القديمة، تعبيرًا عن المهارة في التمثيل بالبكاء والدموع الكاذبة من أجل خداع الآخرين، ولكن السبب يكمن في وجود جفن ثالث لدى التماسيح يتطلب قدرًا كبيرًا من الدموع التي تقوم بعملية ترطيب لعيونها.

وقول آخر دموع التماسيح التي يضرب بها المثل هي في الحقيقة ليست دموعاً، حيث إن عيون التماسيح ليس بها غدد دمعية كالأسماك، وإن ما نراه على عيونها ونظنه دموعاً ما هي إلا بقايا الماء الذي تعيش فيه، فشبهت بالدموع، ولذا يضرب به المثل في الخداع والزيف.

وفي قصة اخوة يوسف -عليه السلام- عبرة وفهم فحين عزموا أمرهم وفعلوا ما فعلوا بأخيهم، جاؤوا أباهم في الظلام كي يخفوا ملامح تعابيرهم ومثلّوا البكاء ” وجاؤوا أباهم عشاءً يبكون”.

فالبكاء لا يجب أن يكون دليل صدق في التعبير عن المشاعر، والشواهد والمواقف التي تؤكد ذلك كثيرة، وربما مرّت أمام الكثير.

وكما في المعجم الوسيط: “و (دموع التماسيح) كِنَايَة عَن النِّفَاق وَالْخداع لِأَن التمساح يدمع إِذا هم بفريسته”.

ويمكن التوسع في (الدموع) وتبقى رمزًا للخداع والغش في تمرير المشاعر بصورة غير صادقة لغرض الوصول لغاية غير نبيلة.

كنا نرى (دموع التماسيح) في شاشات التلفاز من خلال متابعة المسلسلات والأفلام، وندرك إنها تمثيلاً، فلا نعيرها أي اهتمام سوى التأثر حسب قوة الأداء الدرامي، ولكن الآن نشاهد هذه الدموع الزائفة صباح مساء، في الوسائل المرئية، وفي المقابلات المباشرة في معتركات الحياة اليومية، مع الإدراك أن هذه الدموع تطورت وتحولت إلى أساليب خدّاعة بصور مختلفة حسب براعة كل مخادع وغشاش!

ولأن الدموع من نواتج البكاء فالتعبير بكليهما منطقي وممكن، ومن الأمثال الشائعة (ضربني وبكى وسبقي واشتكى) فهذا البكاء إنما هو بكاء كاذب مخادع ظالم، يريد مؤديه أن يحوّل نفسه في نظر الآخرين من المذنب إلى الضحية، وفي هذا غش كبير!

وقال امرؤ القيس في قصيدة مطلعها: لِمَن طَلَلٌ أَبصَرتُهُ فَشَجاني    كَخَطِّ زَبورٍ في عَسيبِ يَمانِ

فوصف الدمع:

أَمِن ذِكرِ نَبهانِيَّةٍ حَلَّ أَهلُها     بِجِزعِ المَلا عَيناكَ تَبتَدِرانِ

فَدَمعُهُما سَكبٌ وَسَحٌّ وَدَيمَةٌ     وَرَشٌّ وَتَوكافٌ وَتَنهَمِلانِ

كَأَنَّهُما    مَزادَتا     مُتَعَجِّلٍ          فَرِيّانِ لَمّا تُسلَقا بِدِهانِ

فـ (سكب، وسحّ، وديمة، ورشّ، وتوكاف: كلها تأتي بمعنى شدة وغزارة انهمال الدمع)

وفي (كتاب الألفاظ لابن السكيت) وهو أقدم معجم في المعاني: “…ويقال: اغرورقت عيناه، إذا امتلأت من الدمع ولم تفض…”

قال ذر  لأبيه عمر، وهو (عمر بن ذر الهمداني وكنيته (أبو ذر) توفي عام 153):

“ما لهم يتكلمون فلا يبكي أحد، وإذا تكلمت أنت كثر البكاء؟ قال: يا بني، ليست النائحة المستأجرة مثل النائحة الثكلى”.

وقيل: البكاء بكاءان، بكاء بالقلب وبكاء بالعين. فبكاء القلب البكاء على الذنوب وهو البكاء النافع، وبكاء العين فإنك لترى الرجل تبكي عيناه وإن قلبه لقاسٍ.

وحسب علم النفس فإن للبكاء والدموع دواعيًا وأنواعًا منها: دموع بكاء الفرح، ودموع بكاء الغضب، ودموع البكاء من الألم، ودموع البكاء لتخفيف التوتر، ودموع بكاء التلاعب، ودموع البكاء النفسي، ودموع بكاء الاستغاثة، ودموع بكاء الإجهاد، ودموع بكاء الحزن والخسارة.

وبعد هذا العرض السريع للبكاء والدموع فهل يمكنك أن تتعرف على دموع تذرف من أعين تصادفها في مسيرتك وفي أفراحك وأحزانك؟، كي لا تقع في دائرة الحمقى، وهل يمكنك معرفة الصادق من الغشاش، والحقيقة من التمثيل؟!

لا تستهين الأمر، فالممثلون بارعون، وربما فاقوا التماسيح في التمثيل، والقدرة على إخفاء المشاعر، والوسائل متاحة، والدوافع رخيصة، والنفوس ضعيفة!

قفلة: (بَكَتْ عَينِي غَدَاة البَيْنِ دَمْعاً     وأُخْرَى بِالبُكَا بَخِلَتْ عَلَينَا

            فَعَاقَبتُ التِي بِالدَّمْعِ ضَنَّتْ    بَأنْ أغْمَضْتُهَا يَومَ التَقَينَا)

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟