لماذا استوقفت (القهوة السعـودية) الرحالة Paul salopek؟

علي الحربي

ترجمة: آمنه الشيخ          

حفزني ما أطلقته وزارة الثقافة لدليلها الإرشادي لهوية القهوة السعودية لعام ٢٠٢٢ واحتفائها بالقهوة كرمز من رموز الثقافة السعودية للكتابة عما استهوى الرحالة الأمريكي Paul salopek  –زميل ناشيونال جيوغرافيك- وما كتبه في موقع مجلة ناشيونال جيوغرافيك وموقعا الالكتروني.

Paul رحالة أمريكي يسير مشياً على الاقدام  في رحلة علمية أسمها الخروج من جنة عدن Out Of Eden Walk بدأت عام 2013 من اثيوبيا ثم جيبوتي حتى وصل إلى جده عبر سفينة نقل مواشي وبدأ رحلته في المملكة العربية السعـودية على طريق الحاج القديم للقادمين قديماً دول الشمال الغربي (مصر وفلسطين وسوريا ولبنان).

وقد كنت ارافقه من (الرايس وحتى العقبة) بعدما توقف عن مرافقته الشريف محمد بنونه بعد تعرضه لمضاعفات في عملية جراحية أجراها قبل بدء مرافقته لـ Paul، ولم يكن ليفوت الفرصةكما فعلت أنابمرافقة الرحالة في هذه المغامرة ذات القيمة العالية التي قد لا تتكرر فرصتها إلا مرة واحدة في العمرعلى الأقل كان هذا تفكيريحتى أن تأثر Paul بغياب بنونه كان واضحاً لدرجة أنه كتب موضوعاً عنه في المجلة وحديثه عنه في مواقف وقصص كثيرة.

ففي حين كانت رحلتنا اليومية من بعد الفجر ونتوقف ظهرًا مع اشتداد درجة الحرارة ثم نُكمل المسير إلى الليل، إلا أنه في ذلك اليوم أراد التوقف عند أحد سكان البادية الذين يستخدمون الخيام كمسكن له ولعائلته في منطقة عبارة عن ملتقى أودية بين ينبع وأملج لا تتوفر بها أي خدمات (لا طريق ولا كهرباء ولا حتى جيران).

كان Paul الحائز على جائزة البوليتزر Pulitzer Prize مرتينالتي تُعتبر من أعرق الجوائز في مجالات متعددة ومنها الصحافةيُعرّف عن نفسه بأنه (راوي قصص)، وقد تتعجب من أن صحفي يحصل على هذه الجائزة لم يختر المكاتب الفارهة والمسميات الرنانة، بل ترك ذلك من أجل أن يتتبع ويمشي في مسارات الإنسان القديم الذي لم يكن يعترف بالحدود بين الدول في تنقلاته.

كان Paul عميق القراءة قبل التوجه إلى أي مكان ويعطي معلومات كثير مما حدثهم بها كانوا يسمعونها لأول مرة، وطوال فترة جلوسنا عند مضيفنا كان يحكي بعض القصص القديمة جداً التي حدثت في هذه المنطقة، وكان يُعجب بطريقة ضيافتهم وكرمهم وأدائهم للصلاة جماعة.

وقتها استوقفته القهوة العربية وطريقة تحضيرها ويحرص على معرفة مكوناتها والأدوات والطريقة التي تُستخدم لتحضيرها، حتى أنه كتب ونشر قصة القهوة العربية في المجلة مع مقطع فيديو سجله عن تفاصيل استهوته.

فقد وصف رحلة فنجان القهوة في صحراء العرب، مُتخذا منه ومن مذاقه وطريقة إعداده مُنطلقا لسرد قصص الخيمة والبدو وخصال التواضع والكرم.

تشاركت مع زميلتي آمنة الشيخكمترجمة متخصصةفي قراءة وترجمة ما كتبه Paul في مجلة ناشيونال جيوغرافيك وتحليله بل وتتبع مسار الرحلة التي قطعها سالوبيك مشياً على الأقدام وأعاد صياغتها بقلمه، وكنت حريصاً على أن لا تغفل آمنة حكاية ولا تتجاوز نقطة وفاصلة كتبها Paul لأني أعرف مدى عمقه في الكتابة والوصف.

فقد خص الرحالة سالوبيك -59 عامًاالقهوة باهتمام خاص وعدّها طقسا مُلزما من طقوس الضيافة في صحراء العرب مؤكدا أن تقديمها يمثل شكلا من أشكال التنوع الثقافي الكبير في المملكة التي اختبرها بنفسه أثناء مروره بالمملكة خلال رحلته العلمية.

المسافة التي قطعها سالوبيك منحته فرصة الاحتكاك بالبدو الرحل الذين يقطنون الصحراء السعودية، تعامل معهم وانغمس مع قبائلهم ودرس أحوالهم ودوّن كل الملاحظات عنهم لتستوقفه القهوةخاصة بمذاقها.

كتب عن الوادي والجمل الذي يسير بصبر تحت أشعة الشمس الحارقة، والخيام البيضاء المثبتة تحت التلة والنساء اللائي يركضن ليختبئن فيها، كتب عن البدو الرحل المتشددين في مقاومتهم رفاهية وراحة حياة التمدن، وأعرب عن تواضع البدو وتعاطفه مع طرق عيشهم وعن تقديره لهم وإعجابه بنسيجهم الأخلاقي وقدرتهم على الصبر والتحمل.

ومع ملاحظات سالوبيك التي حازت إعجاب المتابعين كان توقفه الجميل وعرضه في فيديو احترافي  طريقة تحضير القهوة من طحن حبوب الهيل بالهاوند وتحميص البن وتحضيرها وتقديمها على الجمر مدعما مقالة بصور فوتوغرافية تُعبر عن جمال طقوس تحضير وتقديم القهوة السعودية.

واقتبس سالوبيك تعزيزا لسرده مقولة للكاتب العربي ابن عبدالغفار من القرن السادس عشر مقولته الشهيرة (يشربون القهوة مساء الإثنين والجمعة محفوظة في إناء كبير مصنوع من الطين الأحمر ويشربونها وهم يتلون أذكارهم المعتادة).

عبر Paul عن المكان والوصف الذي كنا نشعر فيه أثناء توجهنا للمضيف بقوله:

لتلف جسدك باتجاه عقارب الساعة وتسحبك ببطء نحو الرمال المنصهرة، ترى الخيام البيضاء المثبتة تحت التلة والنساء يركضن ليختبئن فيها.

كما أضاف أيضاً سالوبيك: اليك ما ستتذكره:

ليس مساحة الأوبرا، وليست الحرارة، ليست القمم الحادة المحفورة مثل ماترهورن (أحد أشهر قمم جبال الابناين بسلسلة جبال الألب) ، ولا الجبال التي تبدو كالأنياب، ولا المنارات التي استخدمها ذات مرة الحجاج لترشدهم إلى مكة، لا، إنها أكواب البورسلين الضئيلة البيضاء المغروسة في راحة يد الرجال، الرجال المحترمين المهذبين، اليقظين دائماً.

اليد التي ثقلت بالنسيج الجلدي المتصلب والخشن، والمشروب الساخن المستقر داخل الأكواب، مغلي. اخترعه المتصوفون العرب قبل سبع قرون بلون أخضر شاحب كلون البحر المتجمد. حين تجد انسيابية نعومة مشروب وسط الكثير من الصلابة!

يا للعجب! كيف يسحبك من البساط! لتعيد ربط حذاءك! كيف يأخذ بيدك ويرشدك لتخرج ماشياً فيقلب الصحراء مرة أخرى!

لطالما لفتت القهوة العربية السعودية أنظار الرحالة الأجانب ممن جابوا أرجاء شبه الجزيرة العربية

والتي تمثل كتاباتهم أهم المصادر الأثنوغرافيا (وصف الأعراق البشرية) التي تساعدنا على تمثل البيئة التقليدية الأصيلة للهوية السعودية.

ما ذكره سالوبيك يؤكد ارتباط ثقافة القهوة بالهوية السعودية بشكل أصيل بخصوصية تعامل المجتمع السعودي معها وأجواءها المميزة وطقوس تحضيرها والتي لا تتوفر بنفس الكيفية بأي بلد آخر، وكأنه يقدم للعالم رسالة (فنجان قهوة يكفي.. كي تعرف من هم السعوديون).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟