في جادة قباء.. حينما يتكلم التاريخ

جادة قباء التي رسمها واقعاً واسماً وتاريخاً صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله وتابع خطوات تنفيذها بخطط محكمة ومكونات مدروسة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن خالد الفيصل بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة المدينة المنورة تعتبر تاريخاً ناطقاً بعمقها وفكرتها وأهدافها ومن خلالها تتجسد مواكب البطولات في مخيلة السائر بها..

فهي تختزن في داخلها وبين جنباتها تاريخ الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى تمد السائر فيها بشتى الأمجاد الإسلامية لهذه الدعوة إذ كلما فكر وتخيل واسترجع أي صورة أو بطولة يجدها حاضرة أمامه بكل تفاصيلها بعمق خاص وطعم مميز

وعلى جادة قباء في السنة الخامسة للهجرة وفي أواخر ذي القعدة رددت جنبات الجادة مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي عاد فيه المسلمون إلى المدينة من غزوة الخندق.. سمعوا مؤذن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ينادي: (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلى في بني قريظة..) حيث تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (لما رجع النبي من الخندق ووضع السلاح واغتسل آتاه جبريل عليه السلام فقال: (أو قد وضعت السلاح يا رسول الله قال نعم فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد.. فأخرج إليهم.. (إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم..)

وشهدت جادة قباء نبي الهدى عليه الصلاة والسلام وقد سار بصحابته الكرام يتقدمهم حامل اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بني قريظة الواقعة مساكنهم على وادي مهزور (وادي المبعوث) في الجنوب الشرقي من المدينة وذلك لأن بني قريظة خانوا العهد ونقضوا الميثاق الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في وقت خطير يوم أن تحزبت الأحزاب وغزت المدينة وفتحت بنو قريظة ثغرة قاتلة لدولة الإسلام حيث اتفق حيي بن أخطب مع سيد قريظة كعب بن أسد على إتاحة الفرصة لدخول ألف مقاتل من قريش وألف مقاتل من غطفان مع بني قريظة لضرب المدينة من خلفها والقضاء على دولة الإسلام الناشئة ونبيها العظيم صلى الله عليه وسلم تحصن بنو قريظة في حصونهم وضرب عليه الصلاة والسلام حصاراً في تلك الحصون خمساً وعشرين ليلة وخلالها عقد رئيس بني قريظة اجتماعاً مع كبار قبيلته وعرض عليهم الإسلام فأبوا وقال لهم اقتلوا نساءكم وذراريكم واخرجوا إلى محمد وقاتلوه فلم يطيعوه فقال لهم: (ما بات رجل منكم منذ أن ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً..) وحاولت قريظة التماس الأعذار لغدرها وخيانة عهودها ولكن الحصار قد ضربه عليهم وأثر في حياتهم ولم تفلح جميع محاولات الوسطاء وتوسط الأوس حلفاء بني قريظة قال لهم عليه السلام: (ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا بلى يا رسول الله فأختار سعد بن معاذ رضي الله عنه

وعلى جادة قباء سار سعد بن معاذ سيد قبيلة الأوس وحليف بني قريظة قبل الهجرة.. محمولاً لأنه كان مصاباً بسهم من سهام قريش في الخندق أتوا به وبعضهم يقول: يا أيا عمرو أحسن في مواليك فإن رسو الله إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم..فقال سعد بن معاذ: آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم وقال عليه الصلاة والسلام لسعد: (إن القوم اختاروك حكماً فأحكم بيني وبينهم فاستوثق سعد من الفريقين بالرضاء في قضائه ثم قال: (أحكم بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم..) فكبر المسلمون وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم حكم الله من فوق سبعة أرقع(.. وقال عليه السلام: (أصبت حكم الله فيهم..)

وعلى جادة قباء قاد المصطفى صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول من العام السادس للهجرة مائتي مقاتل ومعهم عشرين فرساً في غزوة لتأديب بني لحيان الذين أتاه وفدهم بالمدينة وتظاهروا بالإسلام وطلبوا من النبي أن يرسل معهم بعثة تعليمية لتفقيه قومهم بالإسلام فأرسل معهم عشرة من خيرة أصحابه بقيادة الصحابي الجليل عاصم بن ثابت بن الأفلح من الأوس ولما وصلوا إلى ديارهم غدروا بهم وقتلوهم ولذلك سار النبي إليهم بصحابته وأظهر أمام الجميع أنه يريد وجهة الشمال فنزل في (غران) ديار بني لحيان فعلموا بمسيره إليهم وتلقوا رؤوس الجبال وبقى في ديارهم يومين ثم عاد إلى المدينة...

وشهدت إحدى آكام ثنية الوداع المشرفة على جادة قباء في صباح يوم باكر صراخ الصحابي الجليل (سلمة بن الأكوع)رضي الله عنه وهو يقول (ياصباحاه) ثلاثاُ فارتجت المدينة لذلك وسمعه كل من فيها وذلك أن عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني أغار ومعه أربعون فارساً من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى في الغابة شمال المدينة واستاقوها فسار وراءهم سلمة بن الأكوع وكان شجاعاً مقداماً عداءاً لا يسبقه أحد..

فاستيقظت المدينة وهب رجالها إلى نبيهم واهتم رسول الله بالأمر لأنه اعتداء صارخ على المدينة ومحاولة للحط من هيبتها المتصاعدة وعلى الفور أحاط بالرسول أكثر من 500 من صحابته وسار نحو شمال المدينة في أثر المعتدين الذين لاحقهم سلمة بالنبال والحجارة حتى تخلوا عن الإبل.. بل وتركوا 30 بردة و 30 رمحاً تخفيفاً من أحمالهم طلباً للنجاة ولحق النبي وأصحابه بسلمة وقد سلمت اللقاح وعاد الجيش في صباح اليوم التالي إلى المدينة وقال عليه السلام في ذلك: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة.. وخير رجالنا سلمة(.. ورأى الناس ناقة رسول الله القصواء (تدرهم) أي تسير لاعدواً ولا مشياً في جادة قباء وعليها رسول الله ورديفه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه.. وقد سميت هذه الغزوة في التاريخ بغزوة الغابة أو غزوة (ذي قرد) ماء في أعالي جبال وادي (النقمي) في شمال المدينة

وفي موكب مهيب ركب الهادي البشير القصواء وحوله أكثر من 1500 من صحابته الكرام على جادة قباء ومعهم أكثر من سبعين بدنه والسيوف في أغمادها يريد العمرة وذلك مع بدايات شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة وطارت أخبار هذا الحشد في الأفاق وارتجت مكة لهذا النبأ العظيم فعقدت قريش مؤتمراً لكبار قادتها وعزموا على أن يمنعوا الرسول وصحبه من دخول مكة وعقدوا اللواء لخالد بن الوليد وقال عليه السلام لما علم بذلك: ( يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة..فماذا تظن قريش؟ والله إني لاأزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة..) قال هذا عليه الصلاة والسلام عندما قابله بعسفان بشر بن سفيان الكعبي وقال له: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل.. قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً.. وهذاخالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم..)

وتجنب عليه السلام الطريق الذي كان فيه خالد بن الوليد وقال: هل من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها..) برز رجل من أسلم وسار بالجيش النبوي عبر طرق وعرة حتى أنزلهم بسهل الحديبية من أسفل مكة وفي سهل الحديبية.. بركت القصواء فقال الناس خلأت القصواء (أو حرنت القصواء) فقال عليه السلام: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق.. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة

من الحديبية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم (خراش بن أمية الكعبي الخزاعي) لإبلاغ قريش قول الرسول: (إنما جئنا معتمرين معنا الهدى معكوفاً فنطوف بالبيت فنحل وننصرف..وعاد خراش وأخبر الرسول بممانعة قريش من ذلك وأنهم كادوا أن يقتلوه.. فقال الرسول: (والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها..) وبدأ الوسطاء بين الرسول عليه السلام الذي أعلن مجيئه معتمراً وبين قريش التي ثارت حميتهم وزاد عنادهم لمنع الرسول من دخول مكة.. من أولئك الوسطاء رجال من خزاعة برئاسة بديل بن ورقاء _ مكرز بن حفص _ الحليس بن علقمة _ عروة بن مسعود الذي وقف في نادي قريش وعلى ملأ منهم وقال: (أي قوم والله لقد وفدت على الملوك_ ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه.. ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً فروا رأيكم.. قال المبعوث الأول من النبي إلى قريش (خراش بن أمية الكعبي..) يا رسول الله أرى أن تبعث من هو أمنع مني..) فدعا عليه السلام عثمان بن عفان وقال له: (اذهب إلى قريش فخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد وإنما جئنا زواراً لهذا البيت معظمين لحرمته معنا الهدي ننحره وننصرف..)

وصل عثمان رضي الله عنه واجتمع برؤساء قريش وبلغهم الرسالة فقالوا: (إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبسوه عندهم وأشاعوا بقتله ووصلت أخبار إشاعة مقتل عثمان إلى المدينة وتناقل الناس أخبارها وأخبار بيعة الرضوان في الحديبية على جادة قباء وبقيت مسجلة ً في التاريخ ترويها الجادة إلى جانب مسيرة الهادي البشير مفصلة منذ اليوم الأول لسير النبي وصحبه منها بسبعين بدنه راغبين في أداء النسك إلى البيت العتيق لا تزال خطاهم على أرضها تروي تاريخاً وصوراً شتى ومشاهد عظيمة مجللة بأنوار النبوة إلى خيالات وأفهام وعقول السائرين على الجادة على مر العصور والأزمان

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟