مسألة جينات!
بقلم: محمد البلادي
لا أملّ الاطلاع – كلما أتيحت لي الفرصة- على كتاب ( الإمتاع والمؤانسة ) لأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء ( أبو حيان التوحيدي) ذلك المصنف الذي دوّن فيه التوحيدي أحاديث مسامرات سبع وثلاثين ليلة قضاها في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ،حيث كان الوزير يقترح موضوعاً كل ليلة، فيجيبه أبو حيّان عما اقترح بين مسموعٍ ومستنبط بأسلوبٍ مدهشٍ في البلاغة والفصاحة والعمق.
ربما كان سر تمسكي بإعادة قراءة الكتاب هو أنني أجد فيه جديداً في كل مرة أعيد فيها قراءته ، و من طريف وعجيب ماقرأت هذه المرة ،وصفه – غفر الله لنا وله – لأهم صفات أمم ذلك الزمان ،حين باشره الوزير بسؤال عن ذلك ، فقال عفا الله عنه: إن الفُرس قومٌ عُلُمّوا فتعلموا، وبُدئوا بأمرٍ فصاروا إلى إتٌباعه، لهم السياسة والآداب والحدود والرسوم ! .. أما الروم فهم أصحاب بناء وهندسة ، لهم الحكمة والمعمار والأبدان الوثيقة! أما الزنج فلهم الكد والصبر والفرح .. ثم عرّج على الهند فقال بأن لهم الخفة والسحر والأناة ، أصحاب وهم وشعبذة و حيلة ! .. ثم انتقل إلى الصينواصفاً إياهم بأنهم أصحاب أثاث وصنعة،لا فكر لهم ولا روية ! .. ثم ختم بالعرب فقال بأن لهم الشِعر والوفاء والقرى والجود والذمام والخطابة والبيان!! .
وجه العجب والاستغراب بل الدهشة التي تملكتني – والتي ربما وصلت إليك عزيزي القارئ إن كنت قد وصلت إلى هذا الجزء من متن المقال – هو أن وصف التوحيدي لسمات تلك الأمم والذي كان قبل أكثر من ألف عام لايزال قائماً في معظمه ، رغم كل ماحدث بين تلك الأمم من مثاقفة ؛ وتلاقحٍوتناقلٍ فكري وثقافي ، وتواصل واتصال تجاري ومجتمعي، ورغم كل ماطرأ عليها من تبدّل وإحلال ! فكأنه حينما يسرد صفات الأمم وسماتها الغالبة في القرن الرابع الهجري؛ يصف ما هي عليه اليوم فعلاً .. فلا زال للهند الخفة والسحر والغرائب.. وللفرس الآداب والسياسة و الرسوم .. ولأوروبا العلم و الهندسة والبناء.. وللصين الصناعة و الحِرف والأثاث .. بينما لا يزال أبناء عدنان و قحطان حملةً للواء الخطابة والشعر منذ عهد وقوف ( امرئ القيس) و مجايليه على الأطلال و حتى عصر ( شاعر المليون) و(شاعر العرب) ! .
أسئلة كثيرة تقافزت إلى الذهن بسرعة الضوء !! هل تُعد ( الألف ) عام في مسطرة التاريخ فترة غير كافية لتحوّل سمات وصفات أي امة إلى ما يرغب به ساستها ومثقفوها ؟! و هل كُتب علينا – كعرب- أن نبقى امة خطابة وبيان أبد الدهر ؟ وهل كنا نحرث البحر ؛ ونقسو على أنفسنا وعلى جيناتنا العربية الخالصة عندما نطالبها بالتحول من جينات خطابة وشعر إلى جينات بناء وهندسة أو جينات صناعة وعلوم ، أو حتى جينات أثاث وصنعة ؟! أعلم أن الكثيرين سيقفون على ضفتي نهر احتمالات إجابة كل تساؤل من التساؤلات السابقة، لذلك أستميحكم عذراً في استعارة ثياب الحكماء لهذه المرة فقط لأقول : انك لن تستطيع تغيير الثمر؛ ما لم تُغيّر الشجر ! .
Sent from my iPhone