أسْرِعْ ببطء..

نعرف العوالق الضبابية والعوالق الترابية التي تعيق الرؤيا، وتؤثر على السير وعلى الحركة المرورية، ولكن الأكثر احراجًا والأشد إيلامًا هي العوالق التي تعيق الرؤيا الذهنية!

التصدي لبعض المواقف والاستعجال في إبداء ردة الفعل والاعتراض على تصرف ما دون وضوح الرؤيا قد يضع هذا (المتعجل) في حرج شديد، وموقف عصيب.

شابٌ يعمل في محل (صب المفاتيح) وكان منهمكًا في عمله مع آلة (القص والبرد) في الجزء الأخير من المحل، وزبون جاء مستعجلاً ودخل المحل ممسكًا (بثلة مفاتيح) وينادي بصوت مرتفع (يا ولد تعال قص لي مفتاح)!

لم يرد عليه الشاب، فكرر النداء بصوت أعلى، فلم يحرك فيه ساكنًا ولم يجبه، امتعض الرجل وظهرت عليه ملامح الغضب وبدأ ببث بعض الألفاظ النابية، والشاب لم يتلفت إليه البتة.

همَّ بالخروج وهو يزبد غيظًا ويطلق كلمات من (قواميس الشتائم) وفي هذه الأثناء دخل شاب آخر للمحل وهو العامل الآخر في المحل، (خير يا عم، أي خدمة)! قال الرجل أنت صاحب المحل؟ قال لا، ولكن أنا وزميلي الذي بالداخل نعمل هنا. قال وزميلك هذا أصم ما يرد على كلامي ولم يلتفت إلي. قال الشاب نعم هو من (الصُم).

هنا أُسقط بيد الرجل! ولم يدر ما يفعل أو يقول. لحظة صمت رهيب حلت. ناوله المفتاح ودخل الشاب وأعطاه لزميله (الأصم) الذي أكمل عمله (وصب له مفتاحًا) والتفت إليه مبتسمًا وناوله المفتاحين بكل هدوء وأدب وابتسامة!

وآخر رأى رجلاً يشرب الماء بيده اليسرى ومتكئًا بجانبه الأيمن على حائط، فبادره مباغتًا، اشرب باليمين (من باب النصح) فاعتدل الرجل وإذا يده الأخرى مبتورة!

وغيرها من المواقف التي نراها أو نسمع عنها، كلها نتيجة الاستعجال وعدم التثبت والاستسلام للعوالق التي تعيق الرؤيا الذهنية، مسببة أذى نفسي واجتماعي ليس للطرف المخاطب فقط وإنما للمتكلم أيضًا.

ما يعقب مثل هذه المواقف إلا الندم، وسيبقى هذا الموقف حاضرًا في الذاكرة يحاصر صاحبه، ويزيد من معاناته.

ومما سمعناه من كبار السن قولهم (أن رجلاً كان يتمنى عنقه بطول رقبة البعير، لعله يستعيد الكلمة قبل خروجها إن لم تكن موفقة)!

ومن الأمثال العربية “سبق السيف العذل” ذكر (الحسن اليوسي في زهر الأكم في الأمثال والحكم):” السبق معروف والسيف كذلك والعذل بالذال المعجمة: الملامة؛ والعذل بالتحريك الاسم منه. وهذا المثل يضرب في الأمر يفوت ولا يطمع في تداركه وتلافيه.

(وأصله أنَّ الحارث بن ظالم ضرب رجلا بسيفه فقتله فأخبر بعذره فقال: سبق السيف العذل! وقيل إنَّ أصله إنَّ سعداً وسعيداً، أبني ضبة بن أد خرجا في طلب لهما، فرجع سعد وفقد سعيد. وكان ضبة إذا رأى شخصا مقبلا قال: أسعد أم سعيد؟ ثم إنّه في بعض مسائره أتى مكانا ومعه الحارث بن كعب في الشهر الحرام، فقال الحارث: قتلت هنا فتى صفته كيت وكيت، وأخذت منه هذا السيف. فتناوله ضبة فعرفه فقال: إنَّ الحديث ذو شجون، ثم ضربه فقتله، فعذل فقال: سبق السيف العذل!

وسبب العذل هنا هو القتل في الشهر الحرام. وقد وردت عدة موارد لأصل هذا المثل وما تقدم أشهرها.

وقال جرير: يكلفني رد الغراب بعد ما … سبقن كسبق السيف ما قال عاذله) *بتصرف*

وفي رواية أخرى لبيت جرير من قصيدته التي مطلعها: أَلَم تَرَ أَنَّ الجَهلَ أَقصَرَ باطِلُه    وَأَمسى عَماءً قَد تَجَلَّت مَخايِلُه

                                                    … ” وَما بِكَ رَدٌّ لِلأَوابِدِ بَعدَما   سَبَقنَ كَسَبقِ السَيفِ ما قالَ عاذِلُه”

والعجلة والاستعجال أمر فطري في الإنسان ورادعه التروي والتثبت. وقد ورد في القرآن الكريم الدعوة للتبين قبل الحكم “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”. فالندم هو النتيجة الحتمية للعجلة والاندفاع في الحكم دون تثبت.

” أسرع ببطء”! من المقولات المنسوبة لـ (يوليوس قيصر) التي فيها من العمق البلاغي والاستراتيجي والنتاج (الخبراتي) الكثير.

ويوليوس هذا هو القائد العسكري والسياسي الذي حول الجمهورية الرومانية إلى إمبراطورية -قبل الميلاد- وصاحب بطولات وفتوحات وقيادة مميزة، ظلت أقواله خالدة من خلال الروايات والأعمال الفنية التي حكت حياته. إلى أن تم اغتياله حين قال قوله المشهور ” حتى أنت يابروتس”. وبروتس هذا كان ثقته وصديقه ووزيره الذي شارك في عملية اغتياله..

و”أسرع ببطء” جملة بسيطة من كلمتين ربما تفيد السرعة في اتخاذ القرار والتروي في التنفيذ، أو ربما تفيد السرعة في التثبت والتبين قبل التصرف.

العديد من المواقف تحتاج إلى السرعة في اتخاذ القرار، ولكي يكون هذا القرار صحيحًا فالأولى أن تكون السرعة في قراءة الموقف لمن يحسن قراءة الموقف -وهم ليسوا كثر –، وإزاحة كل العوالق التي تعيق الرؤيا الذهنية قبل الحكم. وللأسف لا توجد طريقة لإزاحة هذه العوالق إلا التروي والصبر والأناة دون مماطلة وتسويف (معادلة معقدة إلا لمن خبرها وأتقن مراسها)، والبعد عن التصرف الانفعالي المحكوم بعاطفة القلب المرتبطة بالهوى، لا حكمة العقل. تذكر دائمًا (في العجلة الندامة وفي التروي السلامة)، ولكن في التبلد والتقاعس نهاية حلم.

                      *قفلة: “رُبًّ عجلة تهبُ ريثًا”*

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟