من جادة قباء..  إلى ميدان الخندق

جادة قباء التي رسمها واقعاً واسماً وتاريخاً صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله وتابع خطوات تنفيذها بخطط محكمة ومكونات مدروسة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن خالد الفيصل بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة المدينة المنورة تعتبر تاريخاً ناطقاً بعمقها وفكرتها وأهدافها ومن خلالها تتجسد مواكب البطولات في مخيلة السائر بها..

فهي تختزن في داخلها وبين جنباتها تاريخ الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى تمد السائر فيها بشتى الأمجاد الإسلامية لهذه الدعوة إذ كلما فكر وتخيل واسترجع أي صورة أو بطولة يجدها حاضرة أمامه بكل تفاصيلها بعمق خاص وطعم مميز…

فمنذ غزوة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة حتى السنة الخامسة والمدينة تعيش في حراك مضطرب تحسباً لعدوان قريش من جهة ومؤامرات اليهود والمنافقين بالمدينة من جهة ثانية وتجمعات الأعراب والقبائل من جهة ثالثة.. فلم تكد أن تنتهي المدينة من غزوة حمراء الأسد حتى خيم شبح غزوة بني النضير فغزوة ذات الرقاع لحرب قبيلة بني ثعلبة وبني أنمار فغزوة دومة الجندل ثم غزوة بني المصطلق (المريسيع) في وادي ستارة كل هذه الغزوات إلى جانب إرجاف اليهود والمنافقين في مختلف المواقف لخفض الروح المعنوية للأنصار والمهاجرين لكي يتخلوا عن نبيهم أو يدمروا العقيدة في نفوسهم…

وعلى جادة قباء وصلت الأخبار من مكة بأن يهود بني النضير قد أرسلوا وفداً إلى مكة برئاسة سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وأبي عمار وهوذة بن قيس الوائلي.. سار هذا الوفد من خيبر مروراً بيهود بني قريظة إلى مكة للدعوة إلى هجوم كبير على المدينة من قريش وقبائل أشجع وسليم وبني أسد وغطفان عموماً.. وقد بذل هذا الوفد اليهودي جهوداً كبيرة لإقناع قريش والقبائل المحيطة بها لتأليف قوة قوامها عشرة ألاف مقاتل للهجوم على المدينة والقضاء على محمد ومن ناصره من المهاجرين والأنصار…

كما أكدت الأخبار التي نقلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام بأن يهود خيبر من بني النضير وبقايا بني قينقاع وملاك النخيل في خيبر من القبائل المحيطة قد عقدوا وعداً بتنازلهم عن نصف ثمار نخيل خيبر لقبيلة غطفان لسنة كاملة إذا تم النصر على جيش الإسلام في المدينة…

وعلى جادة قباء سرت أخبار يهود بني قريظة التي أظهرت وداعتها لرسول الله وصحبه الكرام وحرصها ظاهرياً على مسالمة المسلمين ونصرة دولة الإسلام في المدينة وفي داخلها كما وصلت أخبار وصول حيي بن أخطب إلى زعيم بني قريظة كعب بن أسد سيد بني قريظة وقوله له ويحك يا كعب لقد جئتك بعز الدهر وببحر طام..جئتك بقريش وساداتها وغطفان وقاداتها.. قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه.. فرد عليه كعب: بل جئتني بذل الدهر وبجهام قد هراق ماءهـ يرعد ويبرق وليس فيه.. ويحك يا حيي دعني وما أنا عليه فإن لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءاً.. ولكن حيي رغّب كعباً بحماس وتأكيد ومواثيق حتى اقتنع كعب بنقض العهد والميثاق مع النبي صلى الله عليه وسلم ومزق صحيفة ذلك العهد والميثاق بعد أن أقسم له حيي إن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً فسوف يدخل معه في حصنه حتى يصيبه ما يصيب كعباً وقومه…

وعلى جادة قباء سار الزبير بن العوام إلى بني قريظة حيث أرسله الرسول عليه السلام متخفياً ليأتيه بأخبار بني قريظة وتجول الزبير في ديارهم وعاد إلى الرسول وقال: رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون طرقهم وقد جمعوا ماشيتهم.. ولذلك تأكد نبي الأمة من نقض بني قريظة للعهد وقد أصبحوا يشكلون خطراً جسيماً في داخل المدينة على أطرافها الجنوبية…

اهتزت المدينة بخبر تجمع عشرة ألاف مقاتل يسيرون من مكة بقيادات كبيرة وأعداد هائلة ورايات متعددة وتألفت جموع هذه الجيوش وأتى من قريش أربعة ألاف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان بن حرب وستة ألاف من أشجع وغطفان وسليم وأسد وفزارة حيث قاد قبيلة أشجع مسعر بن رخيلة وقاد قبيلة سليم سفيان بن عبد شمس وقاد قبيلة أسد طلحة بن خويلد الأسدي.. هذه جموع قريش والقبائل وفي جنوب المدينة في داخلها يهود بني قريظة.. وجموع المنافقين وعلى الجانب الشرقي يهود بني النضير وبقية يهود خيبر.. جيوش وقبائل ويهود ومنافقون تألبت متجهة نحو المدينة.. إنه الخطر الكبير الذي تجمع لمحو المدينة من الوجود.. وبين سواري المسجد النبوي عقد نبي الهدى صلى الله عليه وسلم المجلس الاستشاري من كبار الأنصار والمهاجرين لمقابلة هذه الجيوش المتحزبة والدفاع عن العقيدة وحماية المدينة من هذا الغزو الكبير الذي تألف بفعل ومساعي اليهود واستمع عليه السلام إلى آراء واقتراحات كبار صحابته الكرام وعرف المجتمعون بأن جيش الأحزاب هذا سوف يأتي المدينة من الشمال لأن طبيعة المدينة تحيط بها الحرار التي لا تمكن الخيل والدواب من السير الآمن من جهاتها الجنوبية والشرقية والغربية واستقر رأي الجميع على مقابلة هذه الجيوش في الجهة الشمالية من المدينة.. وجرى يومها معرفة العدد الذي سيقابل هذه الجيوش من المهاجرين والأنصار واستقر الرأي على وجود ثلاثة ألاف منهم للدفاع عن المدينة وصد المعتدين عن دخولها…

وفي آخر ذلك الاجتماع النبوي وقف سلمان الفارسي وقال يا رسول الله: (إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا فهل لك يا رسول الله أن تخندق..؟) فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم برأي سلمان..واستقر الرأي على الأخذ بإقتراح سلمان الفارسي وحفر خندق من الجهة الشمالية للمدينة..

شهدت جادة قباء صباحاً مشرقاً بعد ذلك الاجتماع.. النبي وكبار صحابته يسيرون عبرها لتحديد تمركز الجيش الإسلامي وبعد الاستطلاع والمشورة قرر عليه السلام أن يكون جيشه على سفح جبل سلع من الجهة الشمالية ليكون هذا الجبل على ظهر هذا الجيش حماية له وركيزة لقيادته وتحصناً به كما استقر الرأي على حفر الخندق الذي اقترحه سلمان من جبل أبي عبيد في الحرة الغربية             (حرة الوبرة) إلى أطراف الحرة الشرقية (حرة واقم) مروراً بطرف جبل (الراية) أو جبل (ذباب) من الشمال بطول خمسة ألاف ذراع أي حوالي 3 كم تقريباً وعرضه 9 أذرع وعمقه 10 أذرع تقريباً.. وبهذا الاستطلاع النبوي تحدد موقع هذا الخندق وعمقه وجهته ومساحته…

وفي الصباح التالي مشت أقدام سيد ولد أدم على هذه الجادة وخلفه 1500 من صحابته الكرام وبأيديهم (المساحي والقفاف والعتل والفؤوس وكافة أدوات الحفر) لبدء العمل في هذا الخندق العظيم وقسم نبيهم وقائدهم مسافة الخندق على أولئك الرجال الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم لنصرة نبيهم عليه السلام وأعطى لكل عشرة من أصحابه حفر 40 ذراعاً بعمق وعرض ومساحة ما تقرر بالأمس لهذا الخندق.. وجعل عشرة من المهاجرين ثم عشرة من الأنصار ثم من المهاجرين ثم من الأنصار وهكذا لتحقيق التنافس بينهم والسرعة في الإنجاز وعند التقسيم وبدء العمل بقى سلمان الفارسي محل خلاف بين الأنصار والمهاجرين فكل يقول سلمان منا وجاءهم الحبيب عليه الصلاة والسلام والخلاف قائم بينهم على سلمان فتوج سلماناً بتاج فخر وعزة وكرامة وقال بصوت مرتفع يسمعه الجميع (سلمان منا آل البيت..) فأنتهى الخلاف وبدأ العمل…

رددت جنبات سلع أصوات أدوات الحفر الجادة والعمل الدؤوب من صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم كما رددت أهازيجهم وهم يقبلون بنشاط وجدية وتنافس على الحفر يشاركهم نبيهم ويتفقدهم ويرجعون إليه في كل عقبة أو عائق يعترضهم منهم ويردد عليه السلام: (اللهم إن العيش عيش الآخرة فأغفر للأنصار والمهاجرة..) ويرتجز معهم كلمات عبدالله بن رواحة رضي الله عنه: (اللهم لولا أنت ما اهتدينا.. ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا..فأَنْزِلَنْ سَكِينةً علينا.. وثبِّت الأقدام إن لاقينا.. إنَّ الأعداءَ قد بغوا علينا.. إذا أرادوا فتنةً أبينا(.. وسجلت جنبات سلع أيضاً قول الأصحاب وهم يقولون أثناء الحفر: (نحن الذين بايعوا محمداً… على الفداء ما بقينا أبداً) والرسول يشاركهم في الأهازيج وفي العمل بتواضع وصبر واحتساب.. وها هو البراء بن عازب رضي الله عنه يقول: (رأيت رسول الله يوم الأحزاب ينقل التراب وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول: (لولا أنت ما اهتدينا..ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا.. الخ) ويقول سهل بن سعد الساعدي: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق ونحن ننقل التراب.. ويمر بنا فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأغفر للأنصار والمهاجرة..) واستمر الأنصار في حفر الخندق والأعداء في سيرهم إلى المدينة وخلال ستة أيام أنتهى العمل في هذا الخندق العظيم الذي فوجئ به الأعداء وصار عائقاً كبيراً لصدهم عن دخول المدينة فلا تستطيع الخيل قفزه ومن سقط فيه لا يستطيع الخروج.. وقد سجلت جنباته العديد من المواقف والأحداث والمعجزات أثناء الحفر حيث شكى الأصحاب من كدية صلبة في بعض أجزائه فأراق الرسول عليها ماءاً بعد أن تفل فيه فصارت كثيباً لا تردّ فأساً ولا مِسحاة كما يقول جابر رضي الله عنه.. وأتت ابنة بشير بن سعد بحفنة من تمر غداءً لبشير وعبدالله بن رواحة فلاحظها النبي ودعاها وأمرها بنثر التمر في كفه ثم بسط ثوباً وبدد التمر فوقه وقال لمن عنده اصرخ في أهل الخندق: أن هلموا إلى الغداء فأكلوا جميعاً وزاد التمر وتساقط من أطراف الثوب… ودعا جابر بن عبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المساء بعد أن انتهى النهار لعشاء على شويهة لديه فرفع عليه السلام صوته قائلاً: (إنَّ جَابِرًا قدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّ هَلًا بكُمْ..) فذهل جابر لذلك لأن الطعام قليل ووصل النبي إلى بيت جابر ورأى الطعام وبرك فيه (دعا بالبركة..) فأكل وتوارد الناس وتتابعوا حتى انتهوا جميعاً وشبعوا من ذلك الطعام.. وتعرضت لسلمان الفارسي في خفره صخرة استعصت عليه فأخذ عليه السلام المعول فضربها ضربة برقت تحت المعول وضربها ثانية وثالثة وكل ضربة ببرقة (ومضة من النور) فسأل سلمان عن تلك اللمعات فقال عليه السلام: ( الأولى فتح الله عليّ بها اليمن والثانية فتح الله بها عليّ الشام والمغرب والثالثة فتح الله بها عليّ المشرق..) يقول هذا عليه الصلاة والسلام والخوف يحيط بأصحابه من كل مكان والجوع والتعب يهيمن على حياتهم كلها.. إنها النبوة وكفى.. وقال أبو هريرة حين فتحت الأمصار في زمن عمر وزمن عثمان وما بعده: (افتحوا اما بدالكم فوالذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك..) هذه بعض المعجزات التي برزت في أثناء حفر الخندق.. بل والخندق نفسه وحفره بهذه المسافة والمساحة في مدة ستة أيام بعدد محدود وآلات بسيطة هو معجزة في ذاته فسبحان الله وبحمده…

وعلى جداة قباء مشى سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج وعبدالله بن رواحة وخوات بن جبير أرسلهم عليه الصلاة والسلام بعد رأى جموع الأحزاب إلى يهود بني قريظة للتأكد منهم على بقائهم على العهد والوعد الذي بينهم وبين رسول الله أم أنهم قد نقضوا ذلك وعندما وصل هذا الوفد إليهم وجدوهم على أخبث ما بلغ الرسول عنهم فعادوا إلى رسولهم عليه السلام وكان قد قال لهم عند مسيرهم إن وجدتموهم قد نقضوا العهد (فالحنوا لي لحناً أعرفه..) أي لا تظهروا أمام الناس تلك الخيانة.. فلما عادوا قالوا له: (عضل والقارة..) أي أنهم غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع حبيب وأصحابه فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر.. أبشروا يا معشر المسلمين(..

وهكذا اختزنت جنبات جادة قباء وسفوح سلع صوراً شتى ومشاهد عظيمة مجللة بأنوار النبوة مفعمة بالآثار والمواقف والأحداث مكتنزةً تاريخاً مشرقاً ينساب إلى خيالات وأفهام وعقول السائرين والزوار على مر العصور والأزمان..

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟