أسوار المدينة المنورة بين الأمن والإدارة

لقد عرفت المدن والعواصم على مر التاريخ ببناء الأسوار، وأدركوا أهميته في الحفاظ على المدن، بل أصبح في كثير من الأحيان أحد قواعد نشأة المدن، وكانت الأسوار التي تحيط بالمدينة المنورة هي نموذج متعارف عليه عالمياً، فأغلب المدن المهمة تحتاج لحماية وإلى تنظيم، وكانت أسوار المدينة المنورةتؤدّي هاتين المهمتين: الأولى الحماية الأمنية للمدينة المنورة من أي إغارة عسكرية عليها، والثانية التنظيم الإداري.

والمدينة المنورة من المدن التي تحتاج إلى هذين السببين أو المهمتين في بناء الأسوار، بخلاف ما يذكر في العديد من المصادر أو المراجع خاصة في التاريخ الحديث التي من خلال دراستها لم أجد حدثاً تاريخياً أثبت أن المدينة المنورة قد تعرضت للنهب والسلب والقتل من قبل القبائل المحيطة بها والتي تسكن في ضواحيها، بل هذه القبائل هي جزء من تركيبتها السكانية وجزء من حمايتها بل كان هناك باب يسمى باب جهينة، ولكن أغلب الأحداث التي تعرضت لها المدينة المنورة هي نتيجة صراعات لأسباب خارجية أو نزاعات نتيجة ظروف سياسية، أما السبب الآخر فهو التنظيم الإداري وهو الأهم، فالمدينة من المدن التي يشد إليها الرحال، وفي كل سنة تأتيها القوافل القادمة للحج والمتجهة إلى مكة سواءً قبل موسم الحج أم بعده، فكانت الحاجة إلى تنظيم الدخول للمدينة أو الخروج منها مسألة إدارية مهمة.

فعمارة السور وأبوابه كانت من أهم عوامل درجات التخصيص الوظيفي للمباني والأحياء كما تعدّ من أبرز ملامح تركيبة المدينة المنورة حيث أسهمت في تخفيف العبء الوظيفي عن مركز المدينة وذلك من خلال الوظائف التي تقوم بها، فهي أبعد من أن تكون منفذاً، حيث كانت المهام الإدارية للسور تظهر لكل من يريد الدخول داخل المدينة فهي مقر للجمارك، ومحصلي الضرائب من التجار، وبالقرب من الأسوار وبواباته كانت المخازن والمستودعات والدكاكين والخانات وغيرها، وهنا يبرز أن السور وبواباته كان من أهم عوامل التخصيص الوظيفي لها، فكان توزيع دخول القادمين إلى داخل ميدان المناخة بين السورين من خلال بوابات مخصصة، فالقادمون من الشام يدخلون من الباب الشامي، والقادمون من مصر أو مكة يدخلون من  باب سويقة الباب المصري.

كما أن الأسوار تضبط التوزع البشري للداخل نحو الأحياء والشوارع، فتركيبة المدينة الداخلية سواءً شوارعها وأزقتها ودروبها لابد أن يراعى فيها توزيع البوابات في الأسوار ليس فقط لأنها نهاية الطرق المؤدية من الخارج بل أيضاً لأنها بداية تكوينها الداخلي.

وقد أدت أسوار المدينة الدور الكبير والهام في تخطيط النسيج العمراني بل وتحديد ملامح الكتلة العمرانية الداخلية، والخارجية المحاطة بالأسوار، فحجم النسيج العمراني وتقوقعه داخل الأسوار وخارجها متأثر بها بشكل كبير، ومثال على ذلك عند فتح بعض الأبواب كاستحداث باب من الجهة الشمالية الباب المجيدي, في السور الداخلي أثناء توسعة المسجد النبوي التي كانت عام 1265هـ بدأت التكتلات السكانية تنتشر في تلك الجهة خارج السور، وتكونت أحياء سكانية تختلف تماماً في تخطيطها العام عن باقي الجهاتوعرفت باسم منطقة باب المجيدي.

ولكن تغيرت مهام الأسوار وانتهى دورها التي ظلت عليها على مدى قرون طويلة، فكانت الأحداث التي مرت على المدينة المنورة منتصف العقد الرابع من القرن الرابع عشر الهجري ونهاية العقد الثاني من القرن العشرين حتى ضمت المدينة المنورة على يد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله عام 1344هـ/1925م إيذاناً ببداية نهايتها, حيث قام المؤسس بعدة تدابير كان من نتائجها الاستغناء عن مهام الأسوار خاصة أن العالم بعمومه في تلك الفترة أصبح أكثر تطوراً من هذه الناحية، فكانت الإجراءات الآتية:

أولاً: نشر الأمن والاستقرار بين الناس، وأمن طرق الحجيج، وكان الأهم هو حرص أهل المدينة من بداخل الأسوار، وأيضاً من في ضواحيها من أبناء القبائل، ومن في القرى المجاورة على الاستقرار والاندماج تحت كيان جديد وجدوا فيه الانتماء الحقيقي.

ثانياً: أن النظام الإداري في المدينة المنورة أصبح تحت منظومة دولة متكاملة مرتبطة بخطط إدارية وتنظيمية, منها إعادة تخطيط المدن، وتطويرها، وهذا ما كان من شق الطرق واستحداث شوارع رئيسية وفرعية، وهنا نقف مع المؤرخ عبد القدوس الأنصاري الذي عاصر أحداث السور حتى إزالته يقول: ” هدم أغلب أجزاء هذا السور فيما بعد في عهد الدولة السعودية التي انتهت بابتداء قيام الدولة العربية السعودية، وكان في هدم هذا السور فوائد جمة للمدينة، منها ما هو عمراني، إذ اتسعت رقعتها للنهضة العمرانية الحديثة هذا الحاجز بين داخلها وخارجها، ومنها ما هو صحي بانطلاق الهواء بين أرجاء منازلها التي كانت مكتومة الأنفاس مسدودة المنافذ، بسب قيام هذا السور وإحاطته بها من كل الجوانب “

ولظروف تلك المرحلة من تاريخ المدينة تركت الأسوار، وتم التركيز على المشاريع التطويرية التي أسهمت في التمدد العمراني، ثم بدأ العمل على شق الطرق، وبناء الجسور، وإنشاء عدد من المباني الحكومية في قلب المدينة، وكان لتوسعة المسجد النبوي دور كبير في الدفع نحو هدم الأسوار ضمن خطة تطويرية متكاملة، وبدأ العمل فعلياً عام 1370هـ/1951م حيث تمدد النسيج العمراني من كل اتجاه، وتخلل بفتح كثير من الطرق، والشوارع كشارع المحكمة، وشارع الملك عبد العزيز، كما تأثرت المنطقة التراثية المحيطة بالمسجد النبوي بمشروع التوسعة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟