إسعافات كتابية

بقلم: سمية جلّون

 

(إقرأ) كان أول أمر من رب العالمين لرسوله الكريم وأول خطاب وجهه إليه حتى تبدأ رحلة النور التي أضاءت الأمة وزالت عنها الغُمّة ، إقرأ يامحمد حتى يستنير قلبك وعقلك بالمسار الصحيح للحياة الطيبة، إقرأ حتى يأتيك ما يسرّك، إقرأ حتى نعلم جميعاً أن العلم نور يضيء لنا مصابيح المعرفة والحكمة والسعادة في العبادة، وفي كل يوم وإلى آخر يوم؛ لحظة بلحظة كلُنا نقرأ، من الصحف والكتب والهواتف النقالة والساعات وعداد إشارات المرور وحتى أرقام المشاهدات لمواقع التواصل الاجتماعي، حتى امتلأت أنظمة حياتنا وتكدست بالمعلومات والأحداث والمواقف والذكريات والتجارب واليوميات لدرجة نرى فيها أننا في عصر يسمى (عصر السرعة) تنتهي ساعاته اليومية بدون إنهاء ما نودْ إنهائه.

‏‎كان رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يُفرّغ كل مخزون داخله بعبادة الخلوة داخل غار حِراء ويتأمل فيه حتى تتم تصفية كل ماعلق في ذهنه من شوائب، وحتى يجد مخرجاً لكل ما لا مخرج له في حال الأمة وتبليغ الرسالة وحتى يتنفس الصعداء وحده مكثفاً التركيز على ذاته حتى يكمل لنا ديننا ويتمم علينا نعمته.

وفي حين عودة ممارسة هذه العبادة في عصر السرعة تحت ما يسمى (التأمل أو السكون) وُجِدْ أن تشتت بعض الأشخاص يصل بهم إلى مرحلة اليأس وفقد البهجة للحياة وممارسة السلوكيات السلبية نتيجة للضغط المتزايد والمتراكم داخلهم، حيث أنهم بحاجة ماسة إلى السكون والتصالح الداخلي مع ذواتهم واستعادة الرغبة في حب الحياة والاستمتاع.
وفي العقد الأخير قام باحثوا علم النفس الإيجابي بعمل تجارب عملية على عملائهم فيما يخص التفريغ بالكتابة وهي أحد التمارين الخاصة بتقوية عضلات الذاكرة والتي من خلالها يتم تفريغ كميات هائلة من الغضب والحزن أو الانفعالات في المواقف حتى تقف أفكار العميل ويشعر وكأنه تكلم مع أعز أصدقائه دون إلقاء اللوم عليه أو توجيه إصبع الاتهام إليه.
وبعد نجاح وفاعلية تمرين التفريغ بالكتابة تم اعتماده في مدارس علم النفس الإيجابي كأسلوب حياة يومي للعملاء والموظفين وحتى الأطباء لتفريغ كل مابداخلهم من أفكار ومشاعر وخطط عمل وأهداف أحلام وأمنيات وإبداع ويوميات، حيث أن إجتماع معلومات ومشاعر من كل هذه الجوانب داخل الدماغ يسبب تشوش وتخبط وعدم وضوح للرغبات والمهام اليومية ويمنع الشخص من الاستمتاع بالحياة والشعور بمساحة الوقت اليومي المتاح له والحضور في اللحظة لانشغاله بكل شيء في المستقبل، حيث تعمل الكتابة على حفظ خصوصية الأفكار والمشاعر المكبوتة في الشخص ويقوم الورق بالسماح للشخص أن يُبحر بمساحة واسعة فيه ويستمع لكل ما يريد قوله بصمت وقوة تحمل ودون تأفف أو انشغال وتجاهل عنه، ويؤدي القلم دور السكرتير الذي ينفذ ويترجم الكلمات والتعبيرات والمهام والأهداف والأمنيات إلى لغة تراها العين المجردة وتسعد كونها متواجدة كخطط تحث على السعي للحصول عليها وإنجازها وتحقيق خطواتها في الحياة اليومية.

ومن تجربة شخصية ومن خلال أصدقائي (الورقة والقلم) تعلمت ومازلت أتعلم الكثير من الكتابة كونها أحد الممارسات الإسعافية لإنقاذ الروح حتى تطمئن؛ والجسد حتى يستمر في السعي والعقل حتى يبدع والقلب حتى يحيى وينتعش.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟