صح لسانك..

جملة بسيطة جدًا تحمل المعنى الحقيقي للمجاملة والمداهنة، وهي في الأصل دعاء، وفي الممارسة إعجاب.

ولكثرة استعمالها صارت فاقدة لمعناها الحقيقي.

هذه الجملة مختصة بمناسبة القاء الشعر، وتجاوزًا إلى كتابته ونشره، فتقال من أي أحد عند نهاية أي نص، دون مراعاة لمدلولها الأصلي.

وهي من الجمل والجوابات التي استمراها الناس حتى أصبحت من الضرورات التي لابد أن تقال عند نهاية كل تقديم.

ومثلها و (النعم) عند التعريف بشخص ما، وأكرمك الله عند الخروج من مجلس المضيف وغيرها من الجمل الجوابية الأخرى.

ولكن (صح لسانك) يجب أن نتوقف عندها كثيرًا! فإن صدرت من العامة فهي من باب العادة والمجاملة، وربما تأخذ جانب التشجيع.

وإن صدرت من العارف بالأدب والشعر تحديدًا فيجب أن تكون صادقة، بعيدة عن المجاملة.

تميز العديد من (الشعراء) المتواجدين في المشهد الآن بالقدرة العجيبة على (الصف والتركيب)، فالقوالب عندهم جاهزة لملئها بالمفردات والجمل والمصطلحات.

و (الكتالوج) محفوظ وجودته عالية جدًا، فما على (الشاعر) سوى التطبيق والتركيب ليخرج لنا دولابًا أو سرير نوم أو كرسيًا أو مكتبًا أو…

فقط عليه أن يختار جودة (القطع) وصلابة مسامير الربط كي لا يتهلهل المنتج سريعًا مع مرور الوقت وكثرة النقل!

وعليه فمن يجب أن نقول له (صح لسانك) هو من وضع وأبدع (الكتالوج)، أما من قام بالتركيب فيكفي أن نقول له أحسنت الاختيار!

واستباقًا لأي رد واعتراض على أن للشعر قوالب ونظام منذ القدم. أقول ما هذا الذي أعني، فلا أعني العروض ولا القافية ولا الصور الفنية وضوابط الشعر، وإنما أعني بعض الجمل والتراكيب والمصطلحات التي تأتي دون ارتباط عاطفي ووجداني وإنما لغة تبناها البعض في زمن محدد فتراها في كل نص جديد وكأن (المصنع) واحد! مع جودة في آلية وضوابط الشعر بالتأكيد.

لن أضرب أمثلة، لأن المجال مفتوح أمام الجميع ليرى ويسمع، فالفرق بين الشاعر والآخر هو مدى قدرته على التعامل مع (الكتالوج) وفهم قواعد التركيب.

يوجد الكثير من الشعراء الذين لا يمكن إغفالهم، ذوي الشعر العالي والحقيقي، لهم قاموسهم الجميل وأسلوبهم الراقي في التعامل مع القضية من خلال القصيدة، وهؤلاء يمكن أن يقال لهم (صح لسانك)!

ولكن الأكثر منهم هم الشعراء المجيدون في (الفك والتركيب)، في جعبة كل منهم (العدة) التي يستطيع من خلالها التجميع.

وهذا الحال في الشعر الفصيح والعامي على السواء، لذلك قل حفظ شعر هؤلاء (الصنايعية) في ذاكرة الناس!

“فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً  وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”

وأنا أكتب تذكرت بيتين لعنترة، وأظنه فاق الجميع فيما جاء به بل تفرد حين قال:

وَخَلا الذُبابُ بِها فَلَيسَ بِبارِحٍ    غَرِداً  كَفِعلِ  الشارِبِ المُتَرَنِّمِ

هَزِجاً  يَحُكُّ ذ ِراعَهُ  بِذِراعِهِ      قدحَ المُكِبِّ عَلى الزِنادِ الأَجذَمِ

جاء في كتاب (خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي):

“…أعني سلامة الاختراع: هو أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق إليه، كقول عنترة في وصف الذباب…” وذكر البيتين السابقين، ثم ذكر بعدهما: “هذا المعنى إذا تأمله المتأدب، وتخيله في فكره يجده غريبًا في بابه، فإنه قال: إن هذا الذباب لَمّا خلا بهذه الروضة التي أعاد الضمير إليها في قوله: بها، صار هزجًا مترنّمًا يحك ذراعه بذراعه من الطرب الذي اعتراه، فشبهه عنترة برجل أجذم قاعد يقدح زنادًا بذراعيه، والأجذم المقطوع اليد، والتقدير في البيت قدح الأجذم المكب على الزناد. انتهى.”

قفلة: (الحقيقي فينا صامت، ولكن الاكتسابي ثرثار) *جبران خليل جبران

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟