
المغتربون الصغار .. سفراء على أرصفة الغربة
بقلم : علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي
بين مطارات مزدحمة وحقائب مثقلة، تبدأ حكاية آلاف الطلاب الذين تركوا أوطانهم خلفهم ليواصلوا مشوار العلم في أرض بعيدة عن الأرض التي ولدوا ونشأوا بها. ليسوا سياحا عابرين، بل هم شباب وشابات يركضون خلف أحلامهم، يتحملون الغربة ليعودوا بما ينفع أوطانهم.
هناك في صالات المطارات ومحطات القطارات، حيث تختلط دموع الأمهات بابتسامات الوداع، تبدأ الحكاية. آلاف الطلاب، صغار في أعمارهم، كبار في أحلامهم، يغادرون أوطانهم الصغيرة، ونقصد هنا «تلك البيوت الدافئة وحضن الأسرة وجماليات الإصباح مع الأهل والأحبة والأصحاب وشاعرية المساء»، حاملين كتبا وأحلاما وقلوبا مشدودة إلى بيوت دافئة تركوها خلفهم. إنهم الطلاب المغتربون، سفراء وطنهم وآبائهم وأمهاتهم على أرصفة الغربة، يسيرون بخطوات واثقة رغم وعورة الطريق.
وراء الصور المشرقة لنجاحات المغتربين، تكمن معاناة صامتة قل من يراها. قد يبدو الطالب المغترب للآخرين قويا مبتسما، لكنه في حقيقة الأمر يعيش ضغوطا متعددة:
حنين دائم إلى الأهل والوطن، لا يخففه إلا اتصال عابر أو رسالة قصيرة أو مكالمة مرئية، اشتياق يطرق القلب كل ليلة إلى أم تفتقده وأب ينتظر أخبار تفوقه. ضغوط مالية ومعيشية، وتحديات تتطلب إدارة دقيقة لمصاريفهم وسط غلاء المعيشة تفرض عليهم مسؤولية أكبر من أعمارهم. عوائق لغوية وثقافية تجعلهم غرباء في قاعاتهم ومحيطهم، وتجعلهم بحاجة إلى وقت وجهد لمواكبة بيئتهم الجديدة. وحدة ثقيلة تعلمهم كيف يصنعون القوة من الداخل، وحدة صامتة تعلمهم كيف يحاورون أنفسهم قبل أن يناقشوا الآخرين.
وفوق ذلك، فإن الغربة ليست جدارا يسد الطريق، إنما جسر يقود إلى النضج والاعتماد على النفس. هي مدرسة تصقل الشخصية وتمنح خبرة لا تمنحها الكتب وحدها.
في الغربة يتعلم الطالب إدارة وقته وماله بحكمة، ويكتسب مرونة في التعامل مع ثقافات مختلفة، ويعود إلى وطنه ومدينته أكثر وعيا وأوسع أفقا، محملا بزاد من التجارب لا يقدر بثمن.
رغم هذه التحديات، تصنع الغربة طالبا أكثر نضجا واستقلالا، يتعلم كيف يبني نفسه من جديد، كيف يدير وقته، وكيف يصنع صداقات من ثقافات متعددة.
كل يوم يضيف إلى خبرته دروسا لا توجد في المقررات الدراسية: درسا في الصبر، ودرسا في الاعتماد على النفس، ودرسا في فهم العالم بروح أوسع.
وحتى يتحقق للطلاب المغتربين مساحة من الأمان النفسي والمعنوي تبنى عليها مسيرتهم العلمية، فإن هناك مسؤولية للمجتمع، فالأسرة تبقى الحاضن الأول عبر رسائل المحبة والدعم المعنوي، كما أن المجتمع المحلي عليه أن يرى في الطالب المغترب ضيفا كريما وسفيرا صغيرا لوطنه، لا مجرد عابر طريق.
وينطبق على الجامعات مثل ما ينطبق على الأسرة والمجتمع، فهي مطالبة بمد يد العون وتقديم برامج اندماج حقيقية للطلاب.
خاتمة القول
المغتربون الصغار ليسوا غرباء، بل أبناء للوطن لم يحالفهم القبول في الجامعات القريبة من مقر إقامتهم والبقاء بجوار الأهل، لكنهم أينما حلوا، هم سفراء يحملون قلوبا معلقة بالجذور، وعقولا مفتوحة على آفاق جديدة. إنهم يمشون على أرصفة الغربة بأقدام متعبة، لكن بصدور مليئة بالأمل، وحين يعودون، يعود الوطن معهم أكبر وأقوى وأكثر إشراقا.
يتعين على الجامعات أن تدرك أن الطالب لا يأتي إليها مجرد متلق للعلم والمعرفة، بل هو إنسان له احتياجات مادية ونفسية ومعرفية؛ لذلك تصبح مسؤوليتها أكبر من مجرد تقديم محاضرات أو اختبار معلومات. ومن هنا، يجب أن تعمل الجامعات على مساعدة الطالب في تهيئة البيئة التعليمية المناسبة من خلال:
توفير الإرشاد الأكاديمي الذي يوضح للطالب متطلبات تخصصه وخطته الدراسية، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي لمواجهة ضغوط الغربة أو الحياة الجامعية، وتسهيل الخدمات التقنية والإدارية عبر منصات ذكية وواضحة، وتأمين فرص التدريب العملي وربط الطالب بالمحيط الاجتماعي للاندماج أكثر مع البيئة الجامعية، وتأمين السكن المريح والآمن بعيدا عن الإيجارات التي تصرف الطالب عن مهمته الحقيقية، وتوفير صناديق دعم مالية مهمتها تقديم الدعم المالي للطلاب الأشد حاجة.
كما أن الجامعات مطالبة بتوفير الدعم اللازم لأنشطة الطالب اللاصفية التي تبني شخصية الطالب وتكسبه مهارات حياتية عبر إشراكه في أندية الجامعة الرياضية والثقافية والمسرحية؛ فالطالب حين يجد أن جامعته تقف بجانبه وتيسر عليه متطلبات دراسته، يزداد انتماؤه لها ويحقق نتائج أكاديمية وحياتية أفضل.
فلنكن معهم في رحلتهم العلمية، ولنوحد الجهود لبناء شخصية متكاملة تستطيع بعد تخرجها أن تكون عنصرا فاعلا في المجتمع، صاحب هوية وقيم يتوقع منه أن يعكس صورة مشرقة لوطنه وأسرته.