
عندما تكذب ويصدقك الشرفاء
بقلم : علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي
الكذب في أبسط تعريفاته انحراف عن الحقيقة، ولكنه يصبح مأساة إنسانية وفكرية حين يجد مكانه في ضمير الشرفاء، أولئك الذين يفترض أنهم حماة القيم وحراس الحقيقة. هنا لا يعود الكذب مجرد فعل عابر، بل يتحول إلى أزمة وعي، وإلى جرح في العلاقة بين الأخلاق والواقع.
في الفلسفة الأخلاقية يقال إن النية الطيبة وحدها لا تكفي؛ لأنها قد تضل صاحبها إن لم تُصحَب بالبصيرة. الشرفاء الذين يصدقون الكاذب إنما يفعلون ذلك لأنهم يقيسون العالم على أنفسهم، فيظنون أن الآخرين مرآة لصفائهم. وهنا تتجلى المفارقة: الطيبة تتحول إلى سذاجة، والشرف يصبح ثغرة يدخل منها الباطل.
المجتمعات لا تنهار بسبب وجود الكاذبين وحدهم، بل بسبب تصديق الشرفاء لهم. فالكاذب لا يملك سوى كلماته، أما قوته الحقيقية فتأتي من جمهور يؤمن به ويحمله على أكتافه. وعندما يتحول حسن الظن إلى قبول مطلق، فإن النتيجة هي ضياع الوعي الجمعي، وتعطيل النقد، وإفساح المجال أمام خطاب زائف يقود الناس نحو أزمات متلاحقة. هذه خطورة عالية على نقاء وسلام المجتمعات.
علينا توسيع دائرة الإدراك بأن تصديق الكذب لا ينتج مجرد خطأ فردي، لكنه يخلق شرعية زائفة للكذب ذاته. فما قيمة الكذبة إن لم تجد من يصدقها؟ وما خطورة الباطل إن لم يُرفع على أكتاف الصادقين؟ إن الكذب لا يعيش في الفراغ، إنما يعيش في الثقة الممنوحة له من الشرفاء الذين لم يميزوا بين النقاء الداخلي والحقيقة الخارجية.
ومادام الجميع يعيش في دائرة الإدراك لخطورة هذه الصفة الباطلة، فإن هذا يطرح سؤالًا فلسفيًّا عميقًا: هل الشرف قيمة مطلقة بذاتها، أم أنه يحتاج إلى وعي يحميه من الانخداع؟ الجواب أن الشرف بلا وعي قد ينقلب إلى عدو نفسه، وأن الفضيلة من غير نقد عقلاني تتحول إلى قابلية للاستغلال؛ لذا فإن أخطر ما قد يواجه الإنسان ليس وجود الكاذب، بل وجود شرفاء يرفعونه فوق أكتافهم وهم يظنون أنهم ينصرون الحق.
خاتمة القول:
الشرفاء غالبًا لا يملكون سوء الظن، ولا يتوقعون أن الكذب قد يصدر ممن يتصدر المشهد العام. هذه الثقة العمياء تجعلهم أكثر عرضة للاستغلال، إذ يتحول إيمانهم بالصدق إلى نقطة ضعف يستفيد منها صانع الوهم. وهنا تصبح النية الطيبة حائطًا هشًا أمام سيول الدعاية والتضليل.
العبارة «عندما تكذب ويصدقك الشرفاء» ليست مجرد تصوير لمفارقة، غير أنها إنذار فلسفي بضرورة المزاوجة بين الأخلاق والعقل، بين النية والبصيرة. فالشرف الحقيقي لا يكمن في صفاء القلب وحده، بل في يقظة الفكر التي تميز الحقيقة من الزيف. فحذارِ أن يكون الشرف بلا وعي؛ لأن الكذب عندها لا ينتصر بقوة ذاته، بل بضعف من صدقوه.
الكذب في ذاته ضعف، لكن خطورته تتضاعف حين يلبس ثوب الصدق في أعين من نعدهم معيارًا للشرف والحق، كما أنه يكشف مفارقة مأساوية بأن يخدع الكاذب أصحاب القيم، فيتحولون فيما بعد من حيث لا يشعرون إلى قوة تبرير للكذب وإكساب الباطل شرعية.
بالطبع، هي لا تكشف عن هزال الكاذب وحده، إنما تمتد لتبلغ منظومة القيم التي سمحت بأن يتسلل الكذب في ثياب الحق.
إنها صرخة ضد تغييب الوعي، فالشرفاء حين يصدقون الكاذب، إما أنهم لم يميزوا الحقيقة أو أنهم انساقوا خلف عاطفة أو ولاء.
بقي شيء أخير يتعين معرفته، هو في خيبات الإنسان، فالخيبات تزداد يومًا بعد آخر حين يتحول الكذب إلى حقيقة في أذهان من كنا نعدهم ملاذًا آمنًا للقيم.