التسامح.. لغة القلوب التي تنقذ العالم

بقلم : علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي

 

يحتفي العالم كل عام في السادس عشر من نوفمبر باليوم العالمي للتسامح، وعلى الرغم من حالة الصخب والضجيج والانقسام السياسي والحروب والمجاعات، إلا أن التسامح يبقى رمزا من رموز الحياة، تلك الحياة التي تبعث الأمل في النفوس وتضفي نوعا من الإنسانية يعالج الانكسارات ويداوي الجراح.

هذا الكون، حتى وإن تسارعت فيه الأحكام واحتدمت الأمور واشتدت تبعاتها، فإن التسامح يبقى فعلا نادرا، يشبه نسمة هواء تمر في صيف مكتظ بالغضب.

التسامح ليس ضعفا كما يظن البعض، إنما هو قوة هادئة تحتاج إلى قلب ناضج وعقل متزن. إنه قدرة الإنسان على الارتفاع فوق الجراح، والنظر إلى الآخر بعين الإنسانية لا بعين الخصومة.

التسامح هو أن تمنح الآخرين حق الاختلاف، وأن تدرك أن الحقيقة لا يملكها أحد بمفرده. هو أن تصافح المختلف، لا لأنك تتنازل، بل لأنك تؤمن بأن التعددية أساس التوازن. التسامح لا يُطلب من القوي وحده، بل من كل من يرى في السلام الداخلي قيمة لا تُشترى.

إنه لغة لا يتقنها إلا الذين تعلموا أن قسوة العالم لا تُواجه بالكراهية، بل بالرحمة والفهم.

المجتمع المتسامح هو الذي يعرف كيف يزرع الاحترام في اختلاف الآراء، ويؤمن بأن الحوار أول الطريق إلى الحلول، فحيث يغيب التسامح، تتكاثر الفجوات، ويتحول الاختلاف إلى عداوة.

لقد أثبت التاريخ أن الحضارات التي تبنت التسامح ازدهرت؛ لأنها أتاحت للعقول أن تتلاقى بدل أن تتناحر، وللأفكار أن تتعايش بدل أن تُقصى.

في مؤسسات العمل، كما في البيوت، يصنع التسامح بيئة آمنة تُثمر تعاونا وإبداعا. أما حين تُبنى العلاقات على الحقد، فإنها لا تُنجب إلا مزيدا من الانكسار.

جميع الأديان السماوية جعلت التسامح سلوكا مقدسا لا خيارا اجتماعيا.

قال تعالى: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين».
وفي الحديث الشريف: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

تلك القيم لا تدعو إلى ضعف الموقف، بل إلى قوة الروح؛ فالمتسامح لا يُدارى، بل يدير خلافاته بحكمة. التسامح في جوهره عدالة أرحب من العقاب؛ لأنه يمنح فرصة للإصلاح بدل الإلغاء.

التسامح لا يغير الآخرين فقط، بل يعيد تشكيل الإنسان في داخله. من يسامح يحرر نفسه من ثقل الماضي، ويستعيد قدرته على العيش دون كراهية.

إنه قرار واعٍ يعيد ترتيب الذاكرة، ويمنح القلب مساحة جديدة للسلام. المجتمعات التي تتعلم التسامح تُصبح أكثر مرونة؛ لأنها تفهم أن الإنسان لا يُختصر في خطأ، وأن الحوار أعمق من الحكم.

في الختام، التسامح ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل هو فنّ للعيش بسلام مع الذات والآخرين. فحين نسامح، نحن لا ننسى الألم، نحن نتجاوزه. لا نمحو الماضي، لكننا نحوله درسا للحكمة.

إن العالم اليوم لا يحتاج إلى مزيد من القوة والقسوة بقدر ما يحتاج إلى قلوب تعرف كيف تغفر، وعقول تعرف كيف تفهم. فبالتسامح تُبنى الأمم، وتُشفى الجراح، وتستعيد الإنسانية صوتها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟