اختلاق القصص بين التشويه والتشويق (5)

في سلسة المقالات السابقة (اختلاق القصص بين التشويق والتشويه) والتي كتبت في نهاية آخرها:( وبهذه القصة تنتهي هذه السلسلة القصيرة من (المختلقات) و(الملفقات) حول بعض القصائد وشعرائها، والمجال واسع وفيه من القصص (المضروبة) الكثير، وهو أمر ليس متعلقًا بالعصر الحديث بل حتى في العصور الأدبية السابقة لم تخل بعض القصائد من حياكة القصص لنفس الغرضين (التشويق أو التشويه)!)

ونزولاً عند رغبة بعض الأصدقاء القراء باستكمال أو إنهاء هذه السلسلة من قديم الشعر العربي، فسأورد هنا بعض المختلقات بشكل مجمل من الأدب الجاهلي، متجاوزًا فترات العصور الواسطة بين الحديث والجاهلي وما حوته من قصصدرامية أخلّت بالنص الأدبي  خلال فترات التدوينوالتي لم تخل من المختلقات والملفقات والانتحال– وما بعده وقبله.

وسأقف معك عزيزي القارئ على رمزين من رموز وعمالقة الشعر العربي عامة والجاهلي خاصة، الأول زعيم الشعراء وأميرهم آخر ملوك كندة الملك الضليل (امرؤ القيس بن حجر الكندي) الذي سأورد حوله قصتين فقط وبصورة مجملة.

القصة الأولى (حادثة دارة جلجل) تلك الدراما المثيرة التي تسند روايتها عن الفرزدق عن جده، وهي باختصار حين ترصد امرؤ القيس لفتيات حيه وهن يستحممن في الغدير فجمع ملابسهن وشاهدهن حين خرجن من الغدير واحدة تلو الأخرى (عاريات مقبلات مدبرات)!

ورغم الدراما المثيرة في هذا المشهد وما اشتمل عليه من صور لا يمكن لشاعر مثل امرئ القيس أن يتجاوزها إلا إنه لم يورد ما يثبت صحة القصة أصلاً في معلقته إلا إشارة ليوم صالح من أيامه الصالحات!

(ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ​​وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ)

فقط بيت واحد وهذا لا يليق بمشهد مثير تفرد له أبيات وأبيات. إضافة لعدد من المفندات لهذه القصة يمكن للقارئ أن يجدها في كثير من شروحات المعلقات.

والقصة الأخرى تتعلق بوفاته، حيث ذكر هشام بن الكلبي إنها بسبب (الحلة المسمومة) التي كساها إياه القيصر، فتساقط لحمه من السم، وهذه لا تستقيم وإن ذاعت شهرتها-مع الواقع الذي بين الملوك وما ثبت من بناء قيصر قبة على قبر امرئ القيس بقيت آثارها إلى القرن التاسع عشر. وإنما أقرب سبب لوفاته ما ذكره هو في سينيته الثابتة حيث يشير إلى مرض يعاوده منذ زمن (فإما تريني لا أغمضُ ساعة         من الليل إلا أن أكبَّ فأنعسا

                           تَأوّبَني دَائي القَدِيمُ فَغَلَّسَا           أُحَاذِرْ أنْ يَرْتَدّ دائي فأُنْكَسَا)

أما الشاعر الآخر فهو النابغة الذبياني وقصة بيته الشهير (سَقَطَ النَصيفُ وَلَم تُرِد إِسقاطَهُ   فَتَناوَلَتهُ وَاِتَّقَتنا بِاليَدِ) والذي يزعم القائلون بأنه قاله في (المتجردة) زوجة الملك النعمان الذي طلب من النابغة أن يصف زوجته (المتجردة) وهذا لا يستقيم مع عادات وتقاليد وأخلاق العرب، وإنه تسبب في غضب الملك النعمان ودور المنخل اليشكري في إذكاء نار الفتة وهروب النابغة نحو ملوك الغساسنة وما تبعها من اعتذارات النابغة المشهورة!

وهذا لا يليق ولا يستقيم، فالبيت ضمن قصيدة من 35 بيتًا (والتي حوت أربعة أبيات هنّ أفحش أبيات الغزل الجاهلي على الإطلاق)!

ومما يوثق بطلان هذه القصة المختلقة والمتوهمة -إضافة لما سبق- هو النابغة نفسه في إحدى اعتذاراته

(لَئِن كُنتَ قَد بُلِّغتَ عَنّي خِيانَةً    لَمُبلِغُكَ الواشي أَغَشُّ وَأَكذَبُ

 وَلَكِنَّني كُنتُ اِمرَأً لِيَ جانِبٌ          مِنَ الأَرضِ فيهِ مُستَرادٌ وَمَذهَبُ

   مُلوكٌ وَإِخوانٌ إِذا ما أَتَيتُهُم        أُحَكَّمُ في أَموالِهِم وَأُقَرَّبُ)

فقد نُقل للنعمان أن النابغة مدح ملوك الغساسنة ونال من المناذرة فتوعده النعمان وهو ما ينكره النابغة ويعتذر عنه.

والقصص المخلقة والأوهام وإن أحبها الناس إلا إنها تفسد النص الشعري قيمته الأدبية والفنية.

ولنا موعد في المقال القادم مع شعراء المدينة المعاصرين بدون اختلاق أو تلفيق.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟