اختلاق القصص بين التشويق والتشويه (1)

البعض يجيد فن اختلاق القصص وربطها بأحداث أو شخصيات معينة، فتنتشر القصة المختلقة وتكاد تكون هي الأصل فيتناسى الناس الموقف الحقيقي لذاك الحدث وتلك الشخصية، فلا أدري أكان المقصود باختلاق القصة التشويق والإعجاب أم التشويه أم ادعاء المعرفة والتباهي بالغناء على قضايا الآخرين؟

سأورد قصة  لشاعر ومواقف خاصة وقس عليهما فتاريخ الأدب قد ملئ منها، ومن كثرة ترديدها صارت هي الأصل لقوة سبكها وحبكها، حتى حين تذكر القصة الحقيقية ربما لن تقنع الآخرين بها لأن الأديب والشاعر يستفيض ويحلق بخيالٍ واسع فكأنه قد ابتعد عن الموقف الأصلي أما القصة المختلقة فمفصلة (بالمقاس) على النص الأدبي.

ادريس جمّاع الشاعر السوداني المولود عام1920 والمتوفى 1980، وهو الشاعر المثقف والمعلم والذي كان ضحية قصة حب لم تكتمل حتى هام على وجهه مما اضطر أهله لعلاجه في المصحات النفسية والعصبية، فعادوا به لمصر بعد أن تركها أعوام دراسته لتلقي العلاج في إحدى المصحات ثم نقلوه إلى لبنان للعلاج أيضًا وعاد مرة أخرى للخرطوم ولم تتحسن حالته الصحية والنفسية فأدخل مستشفى الأمراض العصبية في الخرطوم حتى توفي عام 1980.

وهو الشاعر الإنسان الذي كان يحس بمشاعر الناس من حوله وشاعر وطني عالي الحس ويعتبر من شعراء مدرسة الديوان التي من أبرز رموزها عبد الرحمن شكري والعقاد والمازني، وكان كما قال عنه الدكتور عون الشريف قاسم «لقد كان شعر جمّاع تعبيراً أصيلاً على شفافيته الفائقة والتي رسمت لنا الكلمات وأبرزت بجلاء حسه الوطني»

فالقصة المختلقة -وهي مصب حديثنا- هي حول قصيدته الشهيرة ” أنت السماء”، والتي قيل إنه قالها في لندن حينما سافر للعلاج ورأى تلك الحسناء مع زوجها فأطال النظر إليها مما أزعج زوجها فقال جماع:

(أعلى الجمال تغار منا      ماذا عليك إذا نظرنا

هي نظرةً تنسي الوقارَ   وتسعدُ الروحَ المعنىّ) إلى آخر القصيدة، وهو في الحقيقة لم يذهب إلى لندن، وهو من ينفي هذه القصة المختلقة بنفسه وفي نفس القصيدة حيث يقول في آخر قصيدته الشهيرة ” أنت السماء”:

(كلّمْ عهوداً في الصبا    أسألْ عهوداً كيف كُنا

كمْ باللقا سمحتْ لنا       كمْ بالطهارةِ ظللتنا

ذهبَ الصبا بعُهودِهِ      ليتَ الطِفُوْلةَ عاودتنا)

فمن الواضح إنه يتحدث عن قصة حب قديم منذ أيام الصبا، لم تكتمل ولم يكتب لها النجاح، فجرّت عليه ما جرّت.

وكذلك ما ذكر أن العقاد حين سمع قصيدة جمّاع (إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه) إلى آخر أبياتها، وقيل هذه القصيدة ذات الأربعة الأبيات- ليست له وإنما تنسب لشاعر مصري مغمور اسمه عبد الحميد الديب (وريث الصعاليك)، أو قيل إنه حين سمع أبيات:

(أنت السماء بدت لنا      واستعصمت بالبعد عنا

هلا رحمت متيماً       عصفت به الأشواق وهنّا

وهفت به الذكري فطاف   مع الدُجى مغناً فمغنا

  هزته منك محاسن          غنّى بها لما تغنّ

آنست فيك قداسة      ولمست اشراقاً وفنّا)

سأل لمن فقيل له إنها لشاعر مجنون اسمه إدريس جمّاع يرقد في مستشفى المجانين، قال هذا مكانه الطبيعي! (أو بهذا المعنى كما روي)

فهل يُعقل أن العقاد يقول هكذا قول؟ أو إنه لا يعرف ولم يسمع بـ إدريس جمّاع وهو العقاد!

إن مثل هذه القصص المختلقات وإن كانت تغري بالحفظ والمعرفة إلا إن فيها ظلمًا وأيّ ظلم.

ولي معكم وقفة مع (قصص (مختلقة لغرض التشويق أو التشويه) في المقال القادم إن شاء الله.

 (وﺍﻟﺴﻴﻒ ﻓﻲ الغمد ﺗُﺨشَى مضاربُه    ﻭﺳﻴﻒ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﻟﻴﻦ ﺑﺘّﺎﺭُ) *إدريس جمّاع.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟