الحصانة في التنظيمات القبلية قديمًا

اضطرت القبائل العربية في فترات سابقة وقديمة لسن بعض القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية والعرف الأخلاقي والتلازم (المعاهدات) فيما بينهم لأسباب أمنية واجتماعية وأخلاقية وتكوين تنظيمات تحكم الناس بعيدًا عن الفوضى والارتجال.
ومن الأسباب التي دعت لذلك هو بعد تلك القبائل عن مركز الحكم والدولة، خصوصًا لبعد المسافات وقلة وسائل الاتصال حينذاك.
ومن أشهر القوانين القبلية وربما تكون الأسبق هو قانون قبيلة حرب، وقد أُفردت له كتابات ومؤلفات كثيرة، وحفظت لنا الوثائق القديمة هذه القوانين مكتوبة بلغة محلية محكمة وواضحة الأبعاد، ولكن هذا القانون رغم إنه مكتوب إلا إنه متفرق في عدة صحائف ولم يكن مجموعًا بل متفرقَا.
ولن أطيل في هذا المبحث لأنه قد أشبع طرحًا وجمعًا، ولعل من أبرز من كتب عنه الدكتور فايز بن موسى البدراني الذي يذكر فيشكر نظير ما قدم من أعمال ومؤلفات قل نظيرها بمثل هذا الأسلوب من التتبع والترتيب والاستقصاء من خلال (التنظيمات القانونية والقضائية لدى قبائل الحجاز قبل العهد السعودي دراسة موثقة عن التنظيمات القانونية والقضائية لقبيلة حرب) و (أشهر القضاة وكتبة الوثائق في وادي الفرع بمنطقة المدينة المنورة) وغيرها من المؤلفات التي أهداها إلى المكتبات والتراث،
ولكن سأقف مع بعض المواقف التي تعارف عليها أفراد القبيلة في فترة من الفترات، حيث منحت الحصانة لشخصيات محدده بعينها، نظرًا لأهمية الدور الذي يقومون به ويقدمونه للناس بغض النظر عن انتمائهم القبلي.
ويأتي على رأس من منحوا (الحصانة) ابن صوت وهو طبيب العرب في ذلك الوقت واسمه جزاء بن قاسي بن صوت الشدادي من بني عمرو من حرب، وله من القصص في مجال الطب والعلاج ما يحتاج إلى مؤلفات. وبإذن الله يكون لي وقفة مع ابن صوت ومماثليه في مقال لاحق.
فابن صوت أول الخمسة الذين لا يؤخذوا بجريرة غيرهم- حسب السائد- نظرًا لندرة مهنته وجودتها ولأنه يقدم خدماته للجميع. ولم أقف على أن هذه (الحصانة) خاصة أم عامة لكل طبيب في ذلك الوقت؟
وبحسب ما حكاه المؤرخ والباحث الأستاذ محمد بن غالي الترجمي في حديث مطول معه، وهو الذي يمتلك مخزونًا هائلاً من المعلومات في الأنساب والتاريخ والشعر وقصص العرب – وبالمناسبة كان الأستاذ والباحث محمد مسعد المخلفي ينعته بـ(الرجل الأخير) لأسلوب حديثه وفصاحة سرده بلغة بين الفصيح والعامي- وقد تحدث عن قيمة مثل هذه القوانين في تلك الفترة وامتثال الناس لها طواعية دون إكراه بل يحفظونها ويعلمونها لأبنائهم وإن الإخلال بها يعد من (المعائب) التي يعاب بها الرجال.
وأضاف الشخصية الثانية التي منحت (الحصانة) هو القاضي وعلى رأسهم قاضي حرب (القرف) السالمي، فقد تميز هذا الرجل بالدهاء والذكاء والفطنة والمعرفة التامة واستخلاصه للحقائق التي يبني عليها حكمه، وقيل عنه (مجلّي اللوايم ومفكك اللواليب) فقد كان يتواصل عنده المختصمون وبعد سماع دعوى المدعي و(جابة) المدعى عليه يصدر حكمه ويكون ملزمًا للطرفين. فهذا لا يؤخذ بجريرة غيره من ذويه لأن دوره هام للجميع. إضافة إلى أن القرف يتواصل إليه أناس من القبائل الأخرى لما كان يتمتع به من دهاء في القضاء.
والثالث (الملحس) ابن عمار وهو من الصواعد من عوف، وتوارث بنو عمار هذه الطريقة وهي لحوس الناس أو (البشعة) في بعض الدول العربية، وهي نوع من التحقيق الجنائي لإثبات أو نفي حالة جنائية، شريطة أن يتراضى الطرفان ويقتنع من يثبت له الحق بالتعويض المادي فقط(الدية) دون الثأر.
والرابع هو شيخ القبيلة إذ يتميز بميزة عدم أخذ الثأر منه، وهذا مما يؤكد السعي للاستقرار والبعد عن الفوضى لأن شيخ القبيلة وأميرها له دور في صيانة القبيلة وحفظ الحقوق، ويتحقق الاجتماع بوجوده. أما خامس من منح هذه الميزة فهو المولى أو التابع فلا يؤخذ بجريرة سيده البتة.
هذه التنظيمات التي كانت إبان فترة من الفراغ تلازم وتعاهد عليها أفراد ضمن قبيلة فكونت مجتمعًا محميًا من الفوضى والعبث والتعدي وحفظت الحقوق الشرعية والمرعية لكافة الناس، إضافة لغيرها من التنظيمات التي تحلت بمكارم الأخلاق، فقد ذكر الدكتور فايز بن موسى البدراني في (التنظيمات القانونية والقضائية لدى قبائل الحجاز قبل العهد السعودي) – حسب قراءة عبدالله سعد الحُضْبي السبيعي في الجزيرة بتاريخ الأحد 10 محرم 1423- «بعض هذه الصفات ومنها عدم قتل الأسير ولا الجريح، ولا المرأة ولا الشيخ المسن، ولا الطفل ولا الورّاد ولا المدّاد ولا الشدّاد.
والورّاد: هو المكلف بجلب الماء. والمدّاد: هو المكلف بجلب الغذاء. والشدّاد: هو المرتحل من مكان إلى آخر فلا يؤخذ أثناء الارتحال، أما معاملات الجار والمستجير والضعيف والحفاظ على الشرف والابتعاد عن العار فأمور يقدرها العرب ويحرصون عليها باستثناء الثأر الذي قد يطال غير المعتدين».
ولا شك أن جميع القبائل العربية في السابق كانت تحكمها أعراف وقوانين ملزمة في الشؤون داخل القبيلة ومع القبائل الأخرى فيها الكثير من القيم وأخلاق الفروسية التي تنبع من نفوسهم وطباعهم، إلى أن توحدت البلاد تحت قيادة واحدة فتكونت دولة سنت النظام من منطلق الشرع الحنيف، فساد الأمن وعم الاستقرار.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟