جهود السودان في اتفاق سلام جنوب السودان

بقلم : د. الوليد سيد محمد علي بشير
دبلوماسي سوداني

من المعلوم أن مشكلة أو حرب جنوب السودان اندلعت قبيل استقلاله في 1956 ، حيث كان تمرد كتيبة من الجيش السوداني غالبيتها من أبناء جنوب السودان في حامية توريت في 1955، ومنذ ذلك الوقت ظل السودان رهين لهذه الحرب والتي أثرت على تقدم السودان وتنميته، وقد لعب الاستعمار البريطاني دورا بارزا في ذلك إذ أنه عمل علي تهيئة الجنوب للانفصال بانتهاجه لسياسات عزلت جنوب السودان عن شماله لفترة طويلة من الزمن عبر ما عرف بسياسة (المناطق المقفولة) فبعد شهور من إصدار الحكومة البريطانية لتصريح 28 فبراير/ شباط 1922 الذي اعترفت فيه باستقلال مصر، وفي سبتمبر/ أيلول من ذات العام على وجه التحديد صدر أمر “المناطق المغلقة” Closed Districts الذي تضمن جدولا بجهات معينة شملت مديريات جنوب السودان، والتي تقرر فيها أنه: “لا يجوز لأي شخص من غير أهالي جنوب السودان أن يدخلها ويبقى فيها إلا إذا كان حاملا رخصة بذلك، ويجوز للسكرتير الإداري أو مدير المديرية منع أي شخص من أهالي السودان من دخول تلك الجهات أو البقاء فيها”.

مع تعاقب الحكومات الوطنية عقب الاستقلال، اجتهد الجميع في التوصل لحلول مرضية وصولا لتسوية سياسية شاملة وإنهاء للحرب اإلا أن تلك المجهودات لم تبارح مكانة المفاوضات والاتفاقيات الجزئية والتي لم توقف الحرب والصراع بصورة دائمة، ماعدا الفترة بين 1972-1982 وهي الفترة التي أوقفت الحرب لمدة عشرة أعوام، تلى ذلك اتفاقية السلام الشامل في 2005 والتي وقعت عليها الحكومة السودانية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بنيروبي وعملت على إنهاء الصراع والحرب بجنوب السودان وبناء السلام كنموذج لإحلال السلام بالقارة الافريقية لأطول حرب بعد حوار سوداني سوداني لأكثر من عامين.
– لم تكن الفترة الانتقالية 2005 – 2011م ( هادئة ) كما توقعها الكثيرون بين الشركاء (الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان) وبدا ذلك في أعقاب وفاة النائب الأول آنذاك رئيس الحركة الشعبية ومنظرها د. جون قرنق بعد تحطم طائرته بالجنوب عقب عودته من كمبالا في يوليو 2005م عقب ثلاثة أسابيع من توليه منصب النائب الأول والبدء في تنفيذ الاتفاقية، وعلى الرغم من تماسك الحركة الرئيسية وايلولة المهام للنائب سلفا كير ميارديت ظهر التشاكس بين الشركاء في البرلمان وتعديل بعض القوانين والمناصب الوزارية، ولعل ذلك كان عاملاً من عوامل عدم الاهتمام ببرنامج ( الوحدة الجاذبة ) والذي تم وضعه بعد التوقيع على الاتفاقية كبرنامج عمل يفضي لعدم انفصال الجنوب وفقاً لما نصت عليه الاتفاقية، إلا أنه وبعد حلول الموعد في 2011 م جاءت نتائج صندوق الاستفتاء بنتيجة 98.9 % لصالح انفصال جنوب السودان، وهنا كانت المعادلة: إما العيش في سودان موحد مع حرب مستمرة، أو اختيار الانفصال مع سلام دائم، ولذلك اختار القادة في الشمال والجنوب الانفصال مع السلام، والزم ذلك حكومة السودان على أن تكون أو المعترفين بالدولة الجديدة وشاركتهم ذلك في 9/7/2011م، عندما شارك الرئيس السوداني السابق عمر البشير في حفل ميلاد الدولة الجديدة “دولة جنوب السودان” وبدأت بعد ذلك حركة حوار أخرى بين الطرفين فيما عُرف بالقضايا العالقة بين البلدين والتي شملت قضايا الحدود والنفط ومنطقة ( أبيي ) وتوصل الطرفان حينها لبرتوكول تعاون في هذه المسائل تم التوقيع عليه في اديس ابابا في سبتمبر 2012م.
– إلا أن الصراع بين الجنوبيين أنفسهم اندلع من العام 2013م بين مجموعة الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار، أي بعد عامين من ميلاد الدولة الجديدة، واوقف تنفيذ اتفاقيات التعاون بين البلديين وصار جنوب السودان منكبا على شئونه الداخلية وقد ساعد في تأجيج ذلك الصراع العوامل التالية:
1- البعد القبلي،حيث استندت مجموعة الرئيس سلفا كير على قبيلة (الدينكا) بينما استندت مجموعة النائب رياك مشار على قبيلة (النوير).
2. التركيبة السياسية المهيمنة بالجنوب، والتي هيمنت عليها سيطرة حزب الحركة الشعبية بحكم التفاوض وصناعة الدولة الجيدة.
3. الأوضاع الاقتصادية المتردية؛ على الرغم من الاعتماد على النفط بنسبة 80% من الاقتصاد والذي أدى لإهمال الزراعة والقطاعات الاخرى، إلا أن الاقتصاد ظل يعاني الكثير من المشكلات والتي أثرت على المواطن الجنوبي بشكل واضح.
4. العزوف الاقليمي والدولي عن التدخل المباشر لحسم الصراع في عهده؛ الأمر الذي أدى لازدياد حدته.
وعلى الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين إلا أن الصراع تجدد مرة أخرى في الذكرى الخامسة للدولة الجديدة في العام 2016م، وعمل على تشريد العديد من أبناء الجنوب وقتل وتدمير القرى والممتلكات وأصبح جنوب السودان يعاني من نقص غذائي، إذ أعلنت الامم المتحدة أن حوالي 2.3 مليون جنوبي قد يتعرضون للمجاعة.
وفقاً للأوضاع المتردية؛ تحرك السودان عن طريق منظمة الإيقاد (الهيئة الحكومية للتنمية بدول شرق افريقيا) لإيجاد حل للصراع بالجنوب، وقاد مبادرة في ذلك تكللت بالنجاح بعد شهر مارثوني من المفاوضات بين الفرقاء الجنوبيين بالخرطوم وأعلنت عن اتفاق سلام جنوب السودان.
كانت السيناريوهات قبل التوصل لسلام جنوب السودان لا تخرج عن ثلاثة سيناريوهات:
الأول: الابقاء على الحالة الراهنة والتي تعني المزيد من الانقسام والحروب واشتعال المنطقة.
الثاني: تفكك دولة الجنوب والتي ستؤثر على الإقليم بشكل كلي.
الثالث: أن تكون هنالك تسوية شاملة، وهو ما أقدمت عليه دول الإيقاد ورعته الخرطوم.
يشمل الاتفاق الذي تم توقيعه، في 27 يوليو 2018، ويدخل حيّز التنفيذ في غضون 72 ساعة من لحظة التوقيع، كل أنحاء جنوب السودان، على أن ينتهي الطرفان من ترتيباته حالاً، بما في ذلك فضّ الاشتباك، والفصل بين القوات المتمركزة في مواجهة بعضهما، وسحب القوات الصديقة من جميع مسارح العمليات، وفتح المعابر للأغراض الإنسانية، مع الإفراج عن الأسرى والمعتقلين السياسيين، ويتضمن الاتفاق 6 بنود، مع استمرار المفاوضات بين الطرفين، تمهيداً للوصول إلى اتفاق شامل”
كان الاتفاق قد نصّ أيضاً على أهمية التوافق بين الطرفين على آليات للمراقبة الذاتية لوقف إطلاق النار، مع دعوة الاتحاد الأفريقي، وهيئة “إيقاد” إلى نشر القوات اللازمة للمراقبة.
وفي البند الثاني، نصّ الاتفاق الذي وقّعت عليه فصائل أخرى من جنوب السودان على اتخاذ الترتيبات الأمنية اللازمة لجعل القوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن ذات طابع قومي خالٍ من القبلية والنزعات العرقية، مع اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لجمع الأسلحة من المواطنين في أنحاء البلاد.
أما البند الثالث، فقضى بإكمال الاتفاق على مقترح من “إيقاد” حول قسمة السلطة، قبل انتهاء المفاوضات في الخرطوم، على أن تبدأ فترة انتقالية مدتها 36 شهراً، وتتهيّأ البلاد خلالها لانتخابات، على أن تكون مفتوحة لكل الأحزاب السياسية، وأن تكون حرة ونزيهة.
وفي تفاصيل الاتفاق أيضاً، ينصّ البند الرابع على تكثيف الجهود اللازمة لتحسين البنى التحتية، والخدمات الأساسية في جنوب السودان، وخاصة القطاعات الأكثر ارتباطاً بمعاش المواطنين، وناشد الطرفان المجتمع الدولي للمساعدة في هذا المجال.
كذلك قضى الاتفاق في بنده الخامس بتأمين حقول النفط، في ولاية الوحدة المحاذية للحدود السودانية، على أن تعمل حكومة جنوب السودان بالتنسيق مع الحكومة السودانية لإنجاز تلك المهمة، وذلك حتى يعود الإنتاج النفطي بمستوياته السابقة، بعد تضرره من الحرب.
وفي الخامس من أغسطس تم التوقيع النهائي على اتفاق سلام جنوب السودان والتي رعته الخرطوم وقتها وتحت متابعة الإيقاد والاتحاد الإفريقي واتسم توقيع الاتفاق بحضور عدد من قادة دول الجوار وعلى راسهم الرئيس اليوغندي يوري موسفيني، وتم الاتفاق على حكومة انتقالية من 35 وزير (20 من مجموعة الرئيس سلفا كير و15 من مجموعة د. رياك مشار) وكما تم الاتفاق على أن يضم البرلمان 550 عضواً، منهم 332 من مجموعة الرئيس سلفا كير و128 من مجموعة د. رياك مشار.
ثمة عوامل عديدة ساهمت في أن يكون السودان مؤهلاً لهذا الدور ولعل ابرزها:
– سوابق السودان في الوساطة الاقليمية، فقد تميز السودان بلعب أدواراً مهمة لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء في المحيط العربي والافريقي، وظهرت خبرته في مؤتمر القمة عربية في 1967 م والذي عُرف بمؤتمر اللاءات الثلاثة، حيث نشطت الدبلوماسية السودانية آنذاك في تقريب وجهات النظر العربية بين المدارس التقدمية والمحافظة.
– الخبرة التراكمية للسودان في الحوار مع قادة جنوب السودان، منذ اتفاق السلام C.P.A والذي وقع بين الطرفين في العام 2005م مروراً بالتفاوض حول القضايا العالقة بين البلدين تم التفاوض مع الفرقاء الجنوبيين.
– معرفة السودان بالتركيبة السياسية والاجتماعية لجنوب السودان أكثر من أي دولة جوار، وذلك كونهما كانا دولة واحدة لفترة طويلة من الزمن، كل تلك الأسباب قادت السودان كي يكون وسيطاً ناجحاً بين أطراف الأزمة بجنوب السودان إلا أن جاء اتفاق سلام جنوب السودان ملبياً لرغبات الجميع.
غني عن القول أن السودان قام بدور فعال في التوصل للاتفاق وذلك للعديد من العوامل أبرزها أن سلام وأمن جنوب السودان ينعكس مباشرة على سلام وأمن السودان كما أن السودان استقبل العدد الأكبر من اللاجئين من جنوب السودان على الرغم من ما يعانيه الاقتصاد السوداني، ويسعي السودان كذلك للتوصل لحلول مع جنوب السودان في العديد من القضايا العالقة بين البلدين والتي تشمل قضايا سياسية واقتصادية.
عقب ثورة الشعب السوداني في ديسمبر ٢٠١٨ وانهيار النظام السابق في إبريل ٢٠١٩ فإن المرحلة المقبلة تتطلب العديد من الجهود الاقليمية والدولية لحماية الاتفاق والمساعدة في انزاله على أرض الواقع لتعزيز الأمن والسلم بالإقليم، خاصة وأن جوبا صارت منبراً لتحقيق سلام السودان عقب استضافتها لمحادثات السلام بين الحكومة السودانية وجماعات الكفاح المسلح.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟