الشاعر يوسف الرحيلي
عندما يدور الحديث عن الشاعر يوسف الرحيلي، فهو يدور حول ديوانه (رحم الجهات)، دون إغفال لديوانيه السابقين (جناحان للوجد)، و(التي في الصدور)، اللذين هما بمنزلة المعارج التي صعد عليها شاعرنا لتستوي قامته في ديوانه الأخير.
وبصدور (رحم الجهات)، ظهر صوت شعري واضح النبرة لم تختلط به أصوات أخرى، وبزغت فيه جملة شعرية تألقت في أطوائها الحداثة مشرقة بهية، لينال شاعرنا بذلك موقعه بين كبار شعراء المدينة المنورة في العصر الحديث.
يقول عنه الناقد الدكتور محمد الدبالحدي:
«أدرك يوسف الرحيلي/ الشاعر، الكبار من شعراء المدينة المنورة الروّاد المعاصرين: حسن صيرفي، ومحمد هاشم رشيد، ومحمد العيد الخطراوي، أصاخ إلى صوت المكان/ المدينة المنورة في شعرهم، فأدهشَ الفتى المديني، كيف ابتنى أولئك للمدينة شعريّةً غايرت شعريّات الأمكنة، وتغايروا هم أحيانًا، وتماثلوا حينًا في تشكيل مكوّناتها، وهندسة معمارها الفني، وحمولاته من المعاني والأفكار، وتأمّل كيف عبروا بالمكان تخوم المُشاهَد؛ إلى فتنة المتخيَّل، وكيف صاغوا جماليات المَشاهِد، وأنطقوها، وجَهروا بأسرارها الحميمة، واستجلوا منها الروح، والحس، ووحي الإلهام.. وإذا بالفتى الشاعر يحذو حذو سلفه، ويقتفي آثارهم، ويقف حيث وقفوا، ويصغي إلى صوت المكان، وأبعاد وحيه الملهِم.
ومن هذا الميراث تشكّلت ذائقة الشاعر المديني المبدع يوسف الرحيلي، وعلى ضفاف تلك الأسماء والأزمنة الشعرية والخبرات الجمالية؛ يتأتى للشاعر صناعة مجموعته الشعرية الجديدة (رحم الجهات).. المدينة المنورة جوهرها الموضوعي، ونبع تجلياتها االجمالي».
يعدّ (رحم الجهات) من الوحدات الديوانية التي تموضعت المدينة المنورة فكرة شعرية امتدت على مدى الديوان، صدرها باعتذار لسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- حيث استعصى القصيد عن بلوغ مقامه شعرًا، وكيف يبلغه الشعر «والقوافي دون سؤدده)»:
كل هذا النور من يده
والأماني ظل فرقده
كـيف يزهو في الدنى قمر
وهو يخبو فوق مسجده
دام ثغر الكون مبتسماً
مستعيدا يوم مولده
الغمام السحُّ مسغبة
مستغيثٌ عند مورده
والنّخيل البرّ في خدر
حين يسري عطر مرقده
ليت شعري والثرى ذهب
حينما يخطو بسيّده
هل أجاب الشعر قائله؟
أم تهاوى دون مقصده
لست أدري كيف أمدحه
والقوافي دون سؤدده
كلّ لون خاب منهزمًا
حين يبدو لون عسجده
مثل حج دون كعبته
كل شعر دون أحمده
غير أنّ الشعر في شغل
أمسه يبكي على غده
يا عظيم الخلق معذرة
ما أتاني عند موعده!!
استطاع شاعرنا -من خلال ديوانه الأخير- أن يقف على أكتاف سابقيه من الشعراء الذين أفردوا دواوين خاصة بالمدينة المنورة؛ مثل شاعر المدينة الكبير محمد هاشم رشيد في (على ضفاف العقيق)، ومحمد العيد الخطراوي في (على أعتاب المحبوبة)، وعبيد مدني في (مدنيات)، والصفراني في (المدينة).. فأفاد من تجاربهم، وانطلق من نفسه موجهًا رسالة «إلى كل من خط شعرًا، أو حدثته نفسه بشعر في هذه البلدة الطاهرة الشاعرة».
نحن بوح الخلود جيلًا جيلا
رتّل الماء شعرنا ترتيلا
دثرتنا السماء بالوحي أُمًّا
أرضعتنا حروفها سلسبيلا
عانقتنا كآخر الشوق يدنو
مثلما عانق النخيل النخيلا
فبها يصبح الهديل زئيرًا
وبها يصبح الزئير هديلا
وبها صارت النفوس كبارًا
يعتريها السرور حزنًا نبيلا
قتلتنا مدامع الغيد فجراً
إنّ في الشعر قاتلاً وقتيلا!!
وانتبهنا من الحقيقة ظُهراً
فضحكنا من الرّفاق أصيلا
ورنونا مـن الغمام كسِرب
يرتجيه الخلود أن يستطيلا
ومن جهة أسلوبية، استطاع شاعرنا أن يدهش القارئ بلغة أليفة واضحة دون هتك وانكشاف، موحية دون غموض وإسراف، ليحدث انعطافة في الجملة الشعرية المعاصرة في المدينة المنورة؛ كالتي أحدثها من قبله الشاعر حسين عجيان في (لم السفر)، وعيد الحجيلي في (قامة تتلعثم).
للمترعين برحمة الثوّار
الراشفين الماء جذوة نار
الحاملين الصبح بين ضلوعهم
واللاهثين على خطى الأقمار
الماتحين من البقيع حياتهم
والتاركين قلوبهم في الغار
القابسين من النخيل حنينه
إن النخيل بقيّة الأنصار
أنتم رحيق الأرض، صفو أريجها
وهنا المدينة مولد الأزهار