بشير الصاعدي

 

بشير سالم الصاعدي، من أشهر شعراء المدينة المنورة المعاصرين، وآذيّ من أواذي وادي العقيق، تطاير في الثمانينات الهجرية من القرن الماضي، وهو من الطبقة التي ينتمي إليها خالد محمد سالم -رحمه الله، والدكتور مجدي خاشقجي، والشاعر حسين عجيان.
صوت شعري قادم من أصالة القريحة، أورقت موهبته منذ ما يربو على أربعين عامًا، فاحتفى به شيخا الأدب في المدينة المنورة: الشاعر الكبير محمد هاشم رشيد، والأديب الموسوعي الدكتور محمد العيد الخطراوي -رحمهما الله، إذ لم يحد في صدوره الشعري عن أسلوب القدماء، صادر عن إحساس صادق، وعاطفة مشبوبة وسهولة عذبة، مع ديباجة خاصة به، تنفر من حوشي اللغة، ولا تعرف التقديم ولا التأخير، فكانت أصالته مانعًا من سريان لوثة الأخيلة البعيدة، وتهاويم الصور الزئبقية إلى قصائده.
مهلاً فشعرٌ يستفزّكِ فتنةً
ما زال ينتظر الدخولَ ببابي
أولم تري حرفاً عليه ملامحي
نبضي أبوه وأمُه أعصابي
قصائده ولائد المواقف العاصفة، واللحظات الحانية، والحنين إلى أرض أحبابه، ومهد طفولته، إلى طيبة الطيبة -على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
يا أرض أحبابي ومهد طفولتي
مهما نأى قلبي إليك يؤولُ
يا أقدسَ الأقطارِ حبك مُورقٌ
في خافقي لا يعتريه ذبولُ
يا غَرْسَ حُبٍّ في الصُّدور ترعرعي
فلك القلوبُ المؤمناتُ حُقولُ
يا مأرِز الإيمان حَسْبُك رفعةٌ
حين اصطفى فيك المقامَ رسولُ
يا ربَّةَ الحُسن الذي لا ينتهي
الحُسنُ بعدك في الحسانِ طُلولُ
أمضيتُ أعواماً أُغنِّي للهوى
فإذا الغناءُ لما سواك عويلُ
ولا أحسب أن أحدًا لديه مسكة من ذوق، أو بقية من صبابة في وسعه أن ينجو من سحر هذه الياءات المتتابعة، أو يقاوم إطراقة الدهشة أمام سلاستها المتدفقة، أو لا تهتز منه الأريحية عند توقيع المقطع بالمحط الأخير.
إنه -باختصار- شاعر متفق عليه، إنه نقطة الالتقاء والاتفاق عند جمهور الشعر، يستوي في ذلك من تباينت مقاييسهم، أو اختلفت مشاربهم، أو تفاوتت أذواقهم، ليصح لنا أن نقول بأنه أنضج ثمرة من قطوف أسرة الوادي المبارك، رائدة الحياة الأدبية والفكرية في مجتمع المدينة المنورة.
عودي وربِك لو اطلقتُ قافيتي
علّقتُ قلبَك كالياقوت في وتَري
نعم أموتُ إذا عيناك تأمرني
كم قلتُ للروح إن تأمرك: إئتمري
لغة رصينة، ومفردات سلسة، وتراكيب منسجمة، وموسيقى عذبة، مطرزة بعاطفة صادقة، وأخيلة واسعة، وإحساس خاص.
يا سيّدَ الثقلين كلُّ قلوبِهم
لك هاجرتْ وقلوبنا أنصـارُ
فإليك أسرجنا الحنين مطيةً
تحت السنابك يلهث المضمارُ
الجذعُ يقرأُ ما تُكنُّ قلوبنـا
فتحن مثل حنيننا الأشجـارُ
فكأنما أحدٌ يشقُّ صدورنـا
فتعلّمتْ من حبنا الأحجـارُ
أرواحنا -يا سيّدي- لك منـزلٌ
وعيوننا يا نورها لــك دارُ
وعندما رحل الأديب الكبير محمد العيد الخطراوي، أورث رحيله غصة عند شاعرنا، لم يستطع رثاءه، فهول الموقف، ومنزلة الراحل بالنسبة إليه لا يحيط بهما قاموس الرثاء، فقد استنفد الشعراء المراثي، ولاكت ألسنتهم الكلمات الوجعى، وطرقت أذهانهم ضروب الفجيعة، فما كان من شاعرنا إلا أن يصدر قصيدته باعتذار واعتراف بالعجز أمام محمد العيد -رحمه الله- قائلًا:
محمد العيد لن أرثيك فالألف
هناك خلف جدار العجز بي يقفُ
كلُّ الحروفِ بها آثارُ ألسنةٍ
من أين لي لغةٌ غير التي عرفوا
تموتَ بعد نضوبي ثمَّ تسألني
ماءً فمن أين هذا اليومَ أغترفُ
ضلوعنا الجفن والخفّاق أعيننا
فلن يعيدَك لا دمعٌ ولا أسفُ
وردُ المدينة يبقى عطره أبدا
ما زال في الروح يسري عطرُ من قُطفوا
يا أيها البحر هذا زورقي قَلقٌ
في قبضة الموج والبحّار يرتجفُ
يا سيّدَ الشعرِ عذري أنني رجلٌ
نزفتُ موتك جرحاً مثلما نزفوا
الشعر يعرفُ -يا عملاقُ- موعدَه
مع الكبارِ وقد جاءتْ بي الصدفُ
يُلقى لديك دعيُّ الفكرِ رايتَه
فالعدلُ أنتَ إذا حُكّمتَ والشرفُ
يا واحةَ النخلِ لن ترضيك أُعطيتي
فأنتَ تعلم قبلي أنها حشفُ
وقفتَ غدراً بنصف الدرب يا قلمي
فيمَ الوقوفُ وما للصدقِ منتصفُ

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟