من جادة قباء .. إلى ميدان الخندق

جادة قباء التي رسمها واقعاً واسماً وتاريخاً صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة المنورة حفظه الله وتابع خطوات تنفيذها بخطط محكمة ومكونات مدروسة صاحب السمو الملكي المير سعود بن خالد الفيصل بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة المدينة المنورة تعتبر تاريخاً ناطقاً بعمقها وفكرتها واهدافها ومن خلالها تتجسد مواكب البطولات في مخيلة السائر بها .

فهي تختزن في داخلها وبين جنباتها تاريخ الدعوة الإسلامية منذ أيامها الأولى تمد السائر فيها بشتى الأمجاد الإسلامية لهذه الدعوة إذ كلما فكر وتخيل واسترجع أي صورة أو بطولة يجدها حاضرة أمامه بكل تفاصيلها بعمق خاص وطعم مميز …

ففي أيام الأحزاب كانت المدينة مهددة من خارجها بجيش الأحزاب ومن داخلها ببني قريظة الذين تأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من نقضهم للعهود والمواثيق وخاف المسلمون من اليهود على ذراريهم وبيوتهم أشد من خوفهم من تجمعات الأحزاب ولذلك تشرفت جادة قباء بتقبيل اقدام دوريتين من المسلمين لحراسة المدينة إحداهما بقيادة سلمة بن أسلم من بني حارثة من الأوس وكان عدد رجاله (200) رجل وزيد بن حارثة في (300) رجل وهؤلاء كانت مهماتهم حراسة المدينة ليلاً ونهاراً من اعتداء اليهود وغدر المنافقين يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لقد خفنا على الذراري من بني قريظة أشد خوفاً من قريش وغطفان وكان جميع الذراري من النساء والغلمان لاينامون إلا مناوبة خوفاً أن يغير عليهم بنو قريظة .. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الخندق لاينامون طوال الليل إلا قليلاً مناوبةً يقول خوات بن جبير الأوسي ( كان ليلنا بالخندق نهاراً ) .

وسجلت جنبات جادة قباء ذلك التهليل والتكبير الذي كانت دوريات الحراسة من المسلمين يعطرون به أجواء المدينة في حراساتهم وغدوهم ورواحهم ليلاً ونهاراً لإرهاب اليهود ومن والاهم بالمدينة وقد بلغ من غدر بني قريظة أنهم أرسلوا حيي بن أخطب إلى قريش وإلى غطفان لتزويدهم بـألفي مقاتل للإغارة على المدينة من داخلها وهذا مادعا النبي عليه الصلاة والسلام لإعداد هذه الدوريات لحراسة المدينة وقد تم وضع بعض الذراري والنساء في الحصون المنيعة داخل المدينة …

وعلى جادة قباء مشى نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني رضي الله عنه وهو من قادة غطفان الكبار إلى بني قريظة وأتى للنبي عليه الصلاة والسلام وأعلن إسلامه وقال : يارسول الله إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال عليه الصلاة والسلام : ( إنما انت رجل واحد من غطفان فلو خرجت وخذلت عنا أحب إلينا من بقائك معنا فإن الحرب خدعة .. )  ولذلك مشى نعيم بن مسعود إلى بني قريظة عبر جادة قباء وقال : ( يابني قريظة قد عرفتم ودي لكم إن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم واموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم .. فإن رأوا نهزةً  أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به .. وانصحكم أن لاتقاتلوا مع قريش وغطفان حتى تاخذوا منهم رهائن من أشرافهم .. ) فقبلوا النصحية وقالوا : ( لقد أشرت بالرأي ..)

وعبرجادة سلع مشى نعيم بن مسعود رضي الله عنه إلى قريش وكانت نازلة بالسبخة وحول بئر رومة إلى شمال القبلتين والتقى بأبي سفيان وكبار قومه فقال لهم : ( قد عرفتم ودي لكم يامعشر قريش وقد بلغني أمراً أرى من الحق أن أبلغكموه نصحاً لكم فاكتموه عني .. ) قالوا : ( نفعل ) .

قال : ( تعلمون ان معشر يهود قد ندموا على ماكان من خذلانهم محمداً وقد أرسلوا إليه : أنا ندمنا على مافعلنا فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً ونسلمهم إليك لتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم فأرسل لهم أن نعم . فإن بعتث لكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً … واقتنعت قريش بهذا الرأي .

وعلى جادة احد مشى نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه إلى قبيلته وكانت نازلة بطرف وادي النقمي إلى مجمع الأسيال وقال لهم : يامعشر غطفان .. انتم أهلي وعشيرتي ولا أراكم تتهمونني فقال لهم مثل ماقال لقريش وحذرهم ماحذرهم …

عزم أبو سفيان دخول المدينة وأرسل عكرمة بن أبي جهل ومعه مجموعة من قريش وغطفان في جنح الليل إلى بني قريظة ليتفقوا على خطة الهجوم على المدينة من الداخل مع اليهود فطلب بنو قريظة رهائن من قريش وغطفان فعاد عكرمة ومن معه ووصلوا الرسالة إلى أبي سفيان فأبوا طلب بني قريظة ووقع الشك بين جميع الأطراف ونجحت خطة نعيم بن مسعود رضي الله عنه في التخذيل حيث اختلفت خطط بني قريظة مع قريش وغطفان ورد الله كيدهم إلى نحورهم .

ومن على سفوح سلع رأى نبي الهدى عليه الصلاة والسلام جموع الأحزاب عشرة آلاف مقاتل من قريش وغطفان أتت المدينة وترغب في اقتحامها وبداخل المدينة يهود بني قريظة وجموع المنافقين ويعلم صلى الله عليه وسلم أن جموع غطفان لم تأت إلا طمعاً في كسب مابذلته اليهود من تنازلهم عن نصف ثمار نخيل خيبر لسنة كاملة لهم إذا انتصروا وقضوا على محمد ومن معه فأرسل إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان في هذا التجمع لمفاوضتهم في إعطائهم ثلث ثمار المدينة على ان يرجعوا قبائل غطفان من الاشتراك في هذه الحرب كما أنه عليه الصلاة والسلام اجتمع بسعد بن معاذ للمشورة في هذا الأمر فقال يارسول الله : ( أمراً تحبه فنصنعه .. ام شئياً أمرك الله به لابد لنا من العمل به ام شيئاً تصنعه لنا .. ) فقال عليه الصلاة والسلام : ( بل شىء أصنعه لكم .. والله ماأصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم بأي أمر ما .. )

فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه : يارسول الله .. قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان .. لانعبد الله ولا نعرفه وهم لايطعموا أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعاً .. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا . ؟ والله مالنا بهذا من حاجة .. والله لانعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم .. ) فقال عليه الصلاة والسلام : ( فأنت .. وذاك )

وسجلت سفوح جبل سلع شرفها مدى الدهر عندما اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته سلعاً حصناً خلف ظهورهم وصار تمركزهم بين الخندق وجبل سلع وتشكلت دوريات متحركة لمراقبة ورمي كل من يقترب من الخندق الذي فوجىء به الأحزاب واستعصى على خيل أبي سفيان ومن معه تجاوزه إلى جانب الجيش الإسلامي …

واستمر حصار قريش ومن معها للمدينة قرابة الشهر وفي كل يوم تكون محاولة الاقتحام ويتم صد كل من حاول ذلك وصار الرمي بالنبال والأحجار وفي إحدى محاولات الاقتحام استطاع عمرو بن عبد ود بن أبي قيس وهو من الفرسان الشجعان المعروفين وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن وهب وضرار بن الخطاب أن يجدوا مكاناً ضيقاً من الخندق فقفزوا بخيلهم وجرت معركة بين عمرو بن عبد ود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتل علي رضي الله عنه عمرو بن ود وخرجت خيل الباقين واقتحمت الخندق هاربة .

لقد طال الحصار وقارب الشهر على الانتهاء وفي كل يوم تشتد وطأته على الجيش الغازي لأن بقاء عشرة آلالف بدوابهم ومؤنتهم على بطاح الجرف وما حوله ولعدم استطاعتهم تحقيق رغبتهم في الدخول إلى المدينة لوجود الخندق وما عليه من دوريات يقظه وانعدام الثقة في بني قريظة قد ولد يأساً دب في نفوس ومعنويات الجيش الذي أكد قادته وجود الطريق الممهد لدخول المدينة والقضاء على مابها خلال ساعات .. ولكن من كان الله معه فلن يغلب ..

ومن على سفح سلع الشمالي الغربي صعدت دعوات النبي صلى الله عليه وسلم من موقع مسجد الفتح الأعلى اليوم واتجه إلى ربه سبحانه وتعالى رافعاً يديه إلى السماء .. ( اللهم منزل الكتاب .. سريع الحساب .. اهزم الأحزاب .. اللهم اهزمهم وزلزلهم .. ) وقال : ( لاإله إلا الله وحده نصر عبده وغلب الأحزاب وحده .. فلا شىء بعده .. ) كرر صلى الله عليه وسلم دعاءه ملتجئاً إلى ربه تعالى طالباً النصر منه في أيام الاثنين والثلاثاء واستجيبت له يوم الأربعاء بين صلاتي الظهر والعصر كما يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه ..

هبت ريح الصبا العاصفة وما زالت في ازدياد طول عصر ذلك اليوم واشتدت في الليل وأرسل الله سبحانه وتعالى الملائكة ودب الرعب في قلوب هذه الجيوش المتحزبة وملأت الريح عيونهم وعيون دوابهم وانكفأت القدور وطارت الخيام وتشتت الشمل بقدرته سبحانه وتعالى .

ومن على سفح جبل سلع انطلق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ليلاً تنفيذا لأمر نبيه الكريم حيث اختاره قائلاً : ( قم ياحذيفة فأتنا بخبر القوم .. ولا تذعرهم علي .. ) يدخل حذيفة بين صفوف ةخيام القوم وهاهو يقول : ( دخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ماتفعل لاتقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً .. ) وفجأة يسمع حذيفة رضي الله عنه في جنح الظلام صوت أبي سفيان القائد العام ينادي في الناس : ( يامعشر قريش لينظر كل امرىء من جليسه .. ) وبذكاء وسرعة بديهة يقول حذيفة : أخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من انت . قال : أنا فلان ابن فلان .. )

ويعلو صوت أبي سفيان مرة أخرى : يامعشر قريش والله إنكم ماأصبحتم بدار مقام .. لقد هلك الكراع والخف .. وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره .. وبقينا من شدة الريح ماترون .. ماتطمئن لنا قدر .. ولا تقوم لنا نار .. ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني راحل ….

ويقول حذيفة : ثم قام أبو سفيان على جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فوالله مااطلق عقاله إلا وهو قائم …

ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي ( أن لاتحدث شيئاً حتى تأتيني .. ) ثم شئت لقتلته بسهم . وفي هداة الليل بظلامه الدامس أتي حذيفة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم فأخبره وولت قريش في تلك الساعة صوب مكة وسمعت غطفان بذلك فرحلت هي كذلك فكبر عليه الصلاة والسلام وكبر صحابته بصوت ارتج له سلع وقال عليه الصلاة والسلام : ( نصرت بالصبا .. واهلكت عاد بالدبور .. )

ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجيش مولياً من حيث أتى قال : ( الآن نغزوهم ولا يغزونا .. نحن نسير إليهم .. )

وهكذا اختزنت جادة قباء وسفوح سلع صوراً شتى ومشاهد عظيمة مجللة بأنوار النبوة مفعمة بالآثار والمواقف والأحداث مكتنزة تاريخاً مشرقاً ينساب إلى خيالات وأفهام وعقول السائرين والزوار على مر العصور والأزمان .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟