المواسم الدينيّة ينابيع معرفية لصناعة الثقافة

صالح الحسيني

تتشكل اتجاهات المعرفة من أعماق الدوافع إلى آفاق المنافع.. وتأتي المواسم الدينية لتحقق غاية المراسم الأدبية في محافل الضياء من خلال فنون ثقافية تتربع على عرش “الإنتاج”..

تتخذ إمضاءات الروحانية لتفتح عوالم من الدهشة ومسارات من الإبداع، كما تتخذ من “الثقافة”صرحاً يرتب “مواعيد” الإمتاع الأدبي في قصائد خالدة ونصوص شامخة، إضافة إلى شؤون متنوعة من الأدب في القصة، والرواية، وكتب الرحلات، والسير..

من آيات الله البينات عن بيت الله الحرام ما ورد في القرآن الكريم عن مناجاة سيدنا إبراهيم –عليه السلام–، ودعائه لربه – سبحانه وتعالى -: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون ) [إبراهيم: 37].  واستجاب الله تعالى لنبيه دعاءه، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج (وَأَذِّن في الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالًا وعلى كُلِّ ضَامِرٍۢ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍۢ) [ الحج : 27 ]

ومنذ ذلك الوقت والقلوب يستبد بها هوىً جارف، وحنين طاغٍ، وشوق لهيف إلى بيت الله الحرام، وفي كل عصرٍ وآن كلما أحسّت النفوس من ذلك ريًّا، إذا بها يستولي عليها ظمأٌ شديد، وعطشٌ غلاب، يطالبها بمزيدٍ من الريّ، وبأضعافٍ من الإرتشاف.

فيما كان الشعراء وعلى مر العصور والأزمان، في مقدمة من ألهب الحج مشاعرهم واستثار أفئدتهم، فتغنوا في وصف هذه المكانة العالية التي تحتلها مكة المكرمة في نفوس المسلمين، وأبدعوا في الإفصاح عن شوقهم وحنينهم إلى مهوى الأفئدة،

قال ابن القيم رحمه الله يصف حال الحجيج في بيت الله الحرام:

فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ عَبْرَةٍ مُهَرَاقَةٍ      وَأُخْرَى عَلَى آثَارِهَا لا تَقَدَّمُ

وَقَدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا    فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيَسْجُمُ

وَرَاحُوا إِلَى التَّعْرِيفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً     وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُودُ وَيُكْرِمُ

وقد سجَّل الشاعر أحمد شوقي بشعره كثيرًا من خواطره في المناسبات الإسلامية، التي استنبطها من وحي الحج في الشعر الإسلامي الحديث قائلاً:

إلى عرفات الله يا خير زائر        عليك سلام الله في عرفاتِ

فإذا كانت الزيارة انتقالاً من مكان إلى مكان فإن زائر البيت الحرام هو خير زائر إلى خير مكان حقًّا

ويصوّر (شوقي) موكب الاستقبال لكل حاج بقوله:

ويوم تولى وجهةَ البيت ناضرًا     تزف تحايا الله والبركاتِ

على كل أفق بالحجاز ملائكٌ  رسائل رحمانية النفحاتِ

لدى الباب جبريل الأمين براحه   بكعبة قُصاد وركن عفاةِ

وفي الكعبة الغراء ركن مرحب    أفاض عليك الأجر والرحماتِ

واهتم الشعراء والأدباء بموسم الحج منذ قديم الزمان، حتى قبل الرسالة المحمدية وشيوع الإسلام في جزيرة العرب والعالم، فقد أولى الشعراء في العصر الجاهلي اهتمامًا بالغًا بالحج، وأفردوا له مساحات شعرية عبر (سوق عكاظ)، الذي تنافسوا فيه، وفي عصر صدر الإسلام استمرت عناية الشعراء والأدباء بموسم الحج مرورًا بما بعده من العصور.. إلى عصرنا الحالي، الذي تبارى فيه الشعراء بنظم القصائد والأبيات الشعرية، التي تجسد المعاني والمشاعر الإنسانية؛ خصوصًا شعراء مكة والمدينة. واستجد على ذلك نظم الشعر الغنائي لموسم الحج، فكان شعراء الحجاز أمثال فواد شاكر، وأحمد قنديل، ممن كتب الشعر في هذه المناسبة وغيرها من المناسبات، وبرزت أشعار الزمخشري وقصائده الشعرية المرتبطة بموسم الحج منذ خمسينيات القرن الماضي. منها قصيدة «المروتين» وقصيدة «لبيك رب العالمين» وهي من أشهر قصائده الشعرية في الحج، وقد تنوعت اهتماماته الشعرية بموسم الحج ما بين وصف المشهد العام للحج، كثافة الحجيج، صعيد عرفات، مثل قصيدته «موكب الحجيج».

أهيم بروحي على الرابيه          وعند المطاف وفي المروتينْ

وأهفو إلى ذِكَرٍ غـاليه       لدى البيت والخيف والأخشبين

فيهدر دمعي بآماقيه        ويجري لظاهُ على الوجنتين

ويصرخ شوقي بأعماقيه    فأُرسل من مقلتي دمعتين

أهيم وقلبي بدقاته           يطير اشتياقاً إلى المسجدين

وصدري يضج بآهاته    فيسري صداه على الضـفتين

أما الشاعر فؤاد شاكر فيقول واصفًا اللهفة والحنين في قصيدته: (الحج إلى بيت الله الحرام)

أهّلت بأفواج الحجيج المواكب   وخفّت إلى البيت الحرام المناكبُ

تدانت بهم من كل صقعٍ محافلٌ  وفاضت بهم من كل حدبٍ نجائبُ

مشاةً وركباناً على كل ضامرٍ   فمن كل فجٍ أدرك الحج طالبُ

الناس منذ ذلك النداء وهم يأتون” من كل فج عميق” قاصدين هذا البيت العتيق، تسبقهم أفئدتهم قبل أجسادهم.

أطوف به والنفس بعد مشوقة ٌ     إليه وهل بعد الطواف تداني؟!

وألثم منه الركن أطلب برد ما      بقلبي من شوق ومن هيمانِ

فو الله ما أزداد إلا صبابةً         ولا القلب إلا كثرة الخفقانِ

ومن بدوي الجبل قصيدة (الكعبة الزهراء) وهي التي يتخيل فيها رحلته إلى الديار المقدسة فيقول:

بنور على أم القرى وبطيبة     غسلت فؤادي من أسى ولهيبِ

لثمت الثّرى سبعًا وكحّلت مقلتي  بحسنٍ كأسرارِ السماءِ مهيبِ

وأمسكت قلبي لا يطير إلى (منى)   بأعبائه من لهفة و وجيبِ

وقد اتحدت المعارف وتجلت المشارف في وصف الشعور الروحاني في المواسم الدينية، التي تدفقت كينابيع معرفية لصناعة الثقافة على مر أزمنة عديدة، ويصعب التطرق إلى كل ما قيل من قصائد وأبيات شعرية في وصف التمني والشوق إلى الديار المقدسة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟