شيخ أدباء المدينة ونابغتها الخطراوي

شاعر من المدينة
محمد العيد الخطراوي

كان أدباء أسرة الوادي المبارك (1371هـ – 1395هـ) شركاء في مشاربهم، لكن منجزاتهم اختلفت اختلافًا بيّنًا من حيث التفاصيل الفنية، وكان واسطة العقد في هذه الأسرة هو الأديب الدكتور محمد العيد الخطراوي (1354هـ – 1433هـ)، أما كيف استحق الخطراوي هذه المنزلة، فهذا يتطلب إلقاء نظرة شاملة على مسيرة هذا الرائد الموسوعي، فالخطراوي أديب عالم أو هو الشيخ الأديب، فتكوينه العلمي وإحاطته المدهشة بالتراث -شريعة ولغة وتاريخًا- أتاحت له حضورًا ونبوغًا في مختلف أبواب المعرفة، وهنا ينبغي التنبيه على أمر مهم، فغالب أعضاء الأسرة يتمتعون بهذه الأصالة والثقافة التراثية مع اختلاف درجاتهم، لكن ثقافتهم الشاملة كانت حبيسة صوالينهم ومسامراتهم، بينما ترجم الخطراوي هذا الامتلاء إلى كم هائل من الآثار المطبوعة، بداية بكتابه (الرائد في علم الفرائض) الذي يشي بميل فقهي لأديب في مقتبل رحلته، وليس انتهاء بدراساته التي ستظل علامات مضيئة لكل دارس لتاريخ المدينة المنورة عن المدينة في العصرين الجاهلي وصدر الإسلام، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، لقد سدّت هذه المؤلفات فراغًا هائلًا في المكتبة العربية، فالمدينة المنورة مركز حضاري وثقافي لم ينل ما يستحق من الدراسات الاجتماعية والثقافية، وكان فارس هذه الضرورة الباحث العاشق محمد العيد الخطراوي، الذي لم يقف منجزه عند هذه الغاية، بل تعداها إلى أدوار ثقافية لا تقل أهمية، فالخطراوي محقق نشط، حقق وشارك في تحقيق عدد من الكتب وجلها -بالطبع- له علاقة وطيدة بالمدينة المنورة تاريخًا وثقافة، لقد أسهم الخطراوي -تأليفًا وتحقيقًا- في حفظ تراث المدينة وترك زادًا ثريًّا لكل مبحر في تاريخها، وفي ذات الوقت أسهم بجهد وافر في حفظ تراث أعلامها المعاصرين.
عمل ضخم تولى ثقله أديب دافعه الإيمان، وآلته الصبر والجلد والقدرة البحثية الفذة، وقد شاءت حكمة المولى أن يتوج هذا الجهد البديع بالسفر الذي كتبه الخطراوي وهو يقاسي بواكير المرض، وأعني مؤلفه المهم (أسرة الوادي المبارك في الميزان)، كان هذا الكتاب مرجعًا بالغ الأهمية لكل دارس لتاريخ المدينة المنورة الحديث آدابًا وفنونًا، أعلامًا ونصوصًا، فقد قال فيه الخطراوي كل ما يمكن أن يقال عن تاريخ أسرة الوادي المبارك، التي شكّلت في الكتاب المحور الرئيس الذي يتقاطع ويتوازى مع غيره من محاور الحراك الثقافي في المدينة المنورة، لقد ساهم الخطراوي في حفظ ثقافة المدينة بكل إخلاص، لكنه لم ينسَ دوره الاجتماعي في إدارة مراكز الثقافة في محبوبته، فشارك في تأسيس أسرة الوادي المبارك، وشارك في تأسيس نادي المدينة المنورة الأدبي، وظل نائبًا لرئيسه قرابة ربع قرن، كما كان له دور فاعل في الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، وبموازاة ذلك يحتفظ الخطراوي بمكانة عليّة داخل المجتمع المدني، نظير خدماته للحركة التعليمية في مدارس التعليم العام، وفي التعليم الجامعي، هذا الدور لم يقتصر على حجرة الدراسة أو حجرة الإدارة، فالخطراوي لا بد أن يتجاوز هذه التعريفات الضيقة إلى الفضاءات الأوسع، وأوسع فضاءات الخطراوي هو حب المدينة المنورة، فقد أسهم من خلال دوره التعليمي وهو الخبير بروائح الملكات في رعاية المواهب وتقديمها، فكان بحق مكتشفًا وملهمًا لعدة أجيال من أدباء المدينة، ولكن هل كان منجز الخطراوي محصورًا بين لابتي مدينته الأثيرة؟ المؤكد أن الخطراوي تجاوز ذلك إلى المساهمة الحقيقية في نهضة الوطن الأدبية، فقد كان له فضل السبق في تقديم عدد كبير من شعراء المملكة من خلال كتابه الخالد (شعراء من أرض عبقر)، وهذا الكتاب في الأصل حلقات إذاعية.
ودور الخطراوي في تقديم الأدب عبر المنابر الإعلامية قصة أخرى، والنقد في هذه المواقف يتطلب مراعاة اختلاف الإمكانات الثقافية للمتلقين، لكن الخطراوي -بخبرته وبراعته- تمكَّن من بلوغ أعلى درجات الإتقان، وتمكَّن أيضًا من الحفاظ على جودة النقد ورصانته، وللخطراوي شخصية متجددة تقبل كل جديد، ولا تجد غضاضة في مناقشة النظريات الحديثة في النقد، لكن هذه المناقشة كانت دائمًا من موقع الناقد الراسخ الذي لا يتنازل عن هويته الإسلامية والقومية، وبالمثل سار الشاعر الخطراوي، واثقًا من تراثه، واثقًا من شاعريته، محبًّا لأمته.
الخطراوي لم تكن له ديباجة الصيرفي، ولا وجدانية محمد هاشم رشيد، وعلى الرغم من ذلك فهو أحد أهم شعراء المدينة والمملكة في العقود الأخيرة، فالخطراوي شاعر مثقف، عميق التكوين، غزير الإنتاج، صادق في عشقه، لديه قدرة على الحضور في الموعد ومشاركة الوطن والناس مسراتهم وأحزانهم، أول ما نجد في شعره هيامه بطيبته:
مسرح القلب (طيبةُ) وهواهُ وسواها مفاوز وطلولُ
آوت المصطفى وألقت إليه بمقاليدها فعز المثيلُ
ثم ضمّته للحشا وطوته بين أضلاعها فنعم النزيلُ
من يديه استقت فعمّ نداها وبأنواره استمر الهطولُ
وعلى ثغرها تبسّم فجرٌ عبر آفاقه استبان السبيلُ
وهكذا تحتل المدينة جزءًا مهمًّا من ديوان الخطراوي، وهو أمر بدهي لأديب تكشف آثاره عن علاقة توأمية بينه وبين بلدته الطاهرة، وبموازاة هذا الاتجاه يبرز في ديوانه اتجاه وجداني تنامى مع الخطراوي حتى أصبح سمة أساسية في قصائده المتأخرة.
ويبقى المجال الذي تفرّد فيه الخطراوي الشاعر هو شعر التفعيلة، فقد فاق فيه أقرانه، بل فاق تلاميذه أيضًا، وذلك يعود بالدرجة الأولى لشخصيته الشعرية المتجددة الوثابة التي تصطاد الجمال أيًّا كان موطنه، فلنقرأ هذا الشاعر الشيخ وهو يتجاوز الأدوات التقليدية في أحد نصوصه المجنحة:
تأبط شراً تأبط خيراً
وجاءك يعدو
يحاصر ناديك يا عروة الورد
ويزعم للناس أن بإمكانه
أن يباريك في حملك الحق
في شربك الماءَ
منتهكًا بتحديه ما قد يكون تبقى له من حياء
وأنّى له ولكل الصعاليك أن يدركوك
وأن يعدلوك…؟
ولكنهم يتخطون كل الموازين
يمشون في ردهات التسول حتى الثمالة
ويستنزفون التسيّب
يستمتعون بقائمة الطرد
وقافلة الصيد ترجع كل مساء
محمّلة بالتعازي
معبّأة بالخواء
وأنت تردّد للزائرين:
وإنّي امرؤٌ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤٌ عافي إنائك واحدُ
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى
بجسمي مسَّ الحق والحق جاهدُ
أقسّم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء باردُ
رحم الله محمد العيد الخطراوي، فقد قسّم جسمه في جسوم كثيرة، فكان بحق الرائد الموسوعي الأبرز في المدينة المنورة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟