الحساوي الذي تعطّر بتراب العقيق

بقلم : الدكتور حمزه المزيني

وادي العقيق بالمدينة المنورة أحد أودية المدينة المشهورة وهو وادٍ مبارك .. باركه الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال عليه الصلاة والسلام : ( أتاني آتٍ وأنا بالعقيق فقال : إنك بوادٍ مبارك ) وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا سال العقيق قال : ( اذهبوا بنا إلى هذا الوادي المبارك وإلى الماء الذي لو جاءنا جاءٍ من حيث أتى لتمسحنا به ..)

وادي العقيق معلم من معالم مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم ازدهر في العهد الأموي وبنيت على جوانبه المزارع والقصور واتخذ منه كبار بني أمية مواقع لإقامة مزارعهم وقصورهم كسعيد بن العاص وعروة بن الزبير ومروان بن الحكم وعنبسة بن سعيد بن العاص وغيرهم .

وقد أحسنت هيئة تطوير المدينة المنورة وأمانتها بتوجيه ورعاية من صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود أمير منطقة المدينة المنورة وسمو نائبه صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن خالد آل سعود يحفظهما الله تعالى في مشروع إعادة تأهيل وتطوير هذا الوادي التاريخي الأثري المبارك ضمن خطة التطوير الشامل الذي تعيشه المدينة المنورة هذه الأيام كمعلم من معالم مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم وكأثر نبوي ارتبط بحب رسول الله عليه الصلاة والسلام ..

وفي منطقة من مناطق هذا الوادي تقع منطقة ( الحسا ) وهي من المناطق الزراعية التي تلي منطقة ذي الحليفة من الجهة الجنوبية على امتداد الوادي ومنه ( النعناع الحساوي ) الذي يمتاز برائحته المميزة التي من تعطرت أنفاسه به تذكر على الفور مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم ويحرص زوار المدينة على امتداد عصور التاريخ أن يكون نعناع المدينة من بين هداياهم لذويهم وأقربائهم ..

في هذه المنطقة ( منطقة الحسا ) بالعقيق نشأ الدكتور حمزه بن قبلان المزيني وهو كما قلت في العنوان ( الحساوي .. الذي تعطر بتراب العقيق ) ومنذ ولادته إلى اليوم وهو مرتبط بهذه المنطقة أباً عن جد وللعقيق مع مزينة القبيلة العريقة ارتباط وثيق منذ العهد النبوي حيث أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المزني وطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام اقطاعه العقيق فأقطعه إياه وعندما تولى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبقى بيده ماأحياه واسترد الباقي للمسلمين .. ولذلك فمزينة القبيلة مرتبطة بهذه المواقع وديارها كانت تمتد فيما بين الحرمين والعقيق ووادي النقيع من منازلها منذ العهد الجاهلي …

وفي مدرسة ذي الحليفة بوادي العقيق عرف حمزه المزيني دروب العلم والمعرفة وبمدارس المدينة نهل من العلم في المتوسطة والثانوية بمدرسة طيبة الثانوية وهي الثانوية الوحيدة التي كانت بالمدينة عندما كان أبو فارس في سن التعليم الثانوي .

والدكتور ( أبو فارس ) حمزه المزيني يعتبر من الرجال العصاميين الأوائل الذين حفروا طريقهم في الصخر لم يثنه اليتم ولا شظف العيش في السبعينيات الهجرية من القرن الماضي ولا صعوبة وندرة المواصلات على السير في دروب العلم والمعرفة حيث واصل تعليمه بحزم وعزم وإصرار في جامعة الملك سعود ثم في خارج المملكة حتى نال الدكتوراه من جامعة  تكساس  بالولايات المتحدة الأمريكية ( أوستن ) وقد تخصص في ( اللسانيات ) وهذا التخصص يتعمق في الأصوات للغات جميعاً في إطار القواعد الكلية التي تظهر تمثلاتها في اللغات كلها على تباعدها من حيث الأصول والأماكن .. وهذا التخصص في اللغة من الصعوبة بمكان ولكن عزيمة وإصرار  أبو فارس  بعد توفيق الله تعالى جعلت الرسالة محل تقدير وإعجاب من لجان المناقشة والمشرفين عليها وتلقى الدكتور حمزه بن قبلان المزيني بعد أشهر من حفل التخرج رسالةً من نائب مدير جامعة تكساس للدراسات العليا يهنؤه فيها بترشيح الرسالة لجائزة جامعة تكساس لرسائل الدكتوراة المتميزة ويؤكد في رسالته أن مجرد الترشيح لها يُعدُ مفخرة لصاحب الرسالة وأن الجامعة تفخر بتخرج ( حمزه المزيني ) منها .

وعاد أبو فارس إلى أرض الوطن وأصبح علماً من اعلام جامعة الملك سعود وتدرج في أعماله التعليمية والإدارية وتحدى الصعاب حتى نال أعلى المراتب واشتهر في الأوساط التعليمية العالية بصوته الجرىء وإخلاصه المتميز للوطن ولقادته ومواطنيه وتميز كذلك بتواضعه المعروف ومقالاته الرصينة في الأدب والنقد والتربية .

إلى جانب تمكنه من الترجمة والاطلاع على ثقافات الآخر ونقده المتزن الذي يعتمد على الأدلة والمنطق والبراهين والعقلانية ولم تقف ثقافته على مادرس من علوم ومعارف بل وقد استفاد من الكتب التي قام بترجمتها إلى العربية من مؤلفات كبار العلماء والساسة والمثقفين حيث أبرز الكثير من الكتب ومنها ( اللغة ومشكلات المعرفة – دلالة الشكل في العربية في مرآة اللغات الأوربية المعاصرة – آفاق جديدة في دراسة اللغة والعقل – الغريزة اللغوية – اللغة والطبيعة – من عنيزة إلى وول ستريت – سيرة حياة سليمان العليان – العولمة والإرهاب – محاسن العربية – في المرآة الغربية – الهوية والعنف – المتخفي – العيون السرية للدفاع – دراسات في تاريخ اللغة العربية – دليل ميسر إلى الفكر والمعنى – وهل بعض اللغات أفضل من بعض وغيرها من الكتب لكبار أساطين العلم والمعرفة من غير الناطقين بالعربية …

ويُعول صُناع الحضارات على ترجمات العلوم والمعارف والنظريات والاختراعات من اللغات الأخرى إلى العربية من القفزات العلمية التي تدعم الحضارة العربية وتُسهم في تنويع مرتكزاتها وآفاقها كما حصل في زمن المأمون العباسي .

هذا جانب من جوانب النتاج الفكري لهذا العملاق اللغوي وهناك جانب آخر هو التأليف حيث تمخضت حياة الدكتور المزيني في عالم الفكر عن تأليف كتب رصينة تحت عناوين مختلفة  ( مراجعات لسانية – جزئين – التميز اللغوي وقضايا أخرى – ثقافة الظرف – التصدي لها والبديل عنها – الأهلة – شهود المستحيل – في مواجهة التشدد – حوار مع الضفة الأخرى – اختطاف التعليم – في مواجهات الطائفية – وأخيراً كتاب واستقرت بها النوى)

كتب عميقة في مفاهيمها قوية في دلالاتها تعطي للقارىء البعد الذي يريده المؤلف والعمق والأصالة وقوة الطرح والبيان الذي يتحلى به هذا العالم اللغوي العملاق .

إنه يتكلم ويناقش ويحاور عن معرفة وعمق رأيت ذلك من خلال قراءتي لكتابه الأخير لسيرته الذاتية بعنوان ( واستقرت بها النوى ) رأيته وهو يقدم نفسه من خلال هذا الكتاب قلماً بارعاً في عرضه وأسلوبه وحواره ورأيته كذلك قلماً صحفياً وكاتباً قديراً يمتلك ناصية القول والبيان إنه بحق يملأ مكانه في مشاركاته في ذلك كله وفي المؤتمرات المختلفة المتخصصة في اللغة العربية واللسانيات والترجمة والقضايا الفكرية داخل المملكة وخارجها …

هذا هو العقيق الذي تربى بين اكنافه ( أبو فارس ) المزيني أول من امتطى صهوة التعليم من القاعدة إلى القمة في منطقة الحسا من مدرسة ذي الحليفة إلى متوسطة الإمام علي إلى ثانوية طيبة مشياً على الأقدام يومياً قرابة العشرة كيلو مترات أو ركوباً على رمل وادي العقيق في ( قلابات ) جلب الرمل من وادي الحسا إلى عمارات المدينة التي كانت تُشيد في ذلك الوقت .

حياة اليتم وحياة الشظف والمشي في قارس البرد وسموم الصيف .. كل أبناء جيلة في تلك المنطقة وغيرها كذلك ولكن إصرار حمزه المزيني وعمق التحدي في نفس ذلك الطفل بعد توفيق الله سبحانه وتعالى جعل منه عملاقاً يصل إلى جامعات بريطانيا ومدائن أمريكا ليعود حاملاً الدكتوراه في تخصص دقيق من تخصصات اللغة العربية وبه تربع في ساحات الثقافة والأدب في أعرق جامعات الوطن ( الرياض ) يُعلم الأجيال ويُشارك في إقامة صروح البلاد بانتماء وحب وولاء لهذه الأرض وقادتها وكافة مكوناتها ..

وإذا كان المزيني قد حقق أهدافه ونال مبتغاه كأول دكتور يخرج من أقاصي العقيق في وقت شحيح وزمن قد اجبر أقرانه في ذلك الوقت على الوقوف في المنتصف أو قبله فإن الفضل في شحذ همته ودفعه إلى الأمام كلما ضاق الطريق وتعثرت قدماه إلى توفيق الله سبحانه وتعالى ثم لوالدته تلك المرأة العظيمة التي كافحت من أجل رعاية أبنائها ( الأيتام ) وآمنت بضرورة تعليمهم وأنفقت عليهم من كد يدها ومن حزيمات نعناع الحسا في مزرعتهم الصغيرة في هذا الوادي الكريم ..

ويوم ان استقر به النوى كما قَرَعيناً بالإياب المسافر كما قال الشاعر الجاهلي . أتحفنا المزيني بكتابه بدايات العام الميلادي 2020 ( واستقرت بها النوى ) الذي يحكي حلقات من سيرته الذاتية بتفاصيلها في صفحات تقترب من 600 صفحة استمتعت بقراءتها وشدني أن مدن الضباب وولايات الأمركة بل زخارفها ومتاهاتها لم تنسه العقيق وشؤونه ولم تنسه ألعاب الطراطيع والطيبان والدسيسة ومراحل التمر الزغيطي والفذ والحشايا والمجاليد ومكونات البيت الدهليس والبرزة والجلا والقاعة وما فيه من السحارة والجودري والحنبل والطيور أبا العلا والنهس والقمري والرهيدن والشحيمي والنغري والسواني ومكوناتها والبلدان ( المزارع ) ومنتوجاتها .

وأقول هنا بأن هذا النهج وهو تذكر التراث وتسجيل مسمياته وأدواته كتخليد له وتذكير الأجيال به بدأه في عصرنا الحاضر معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر يرحمه الله تعالى في سلسلة كتب له تحت عنوان ( أي بني .. ) وسِرتُ في طريقه في عام 1413هـ بحلقات في ملحق الأربعاء بصحيفة المدينة المنورة تحت عنوان ( رسائل لم يحملها البريد ) وتلقيت حينها خطاباً طويلاً من معاليه رحمه الله يشجعني على الاستمرار قال فيه : ( لقد وجدت متعة فيما قرأت للأصالة في اللمحة السريعة ووجدت استجابة لما دعوت إليه .. وليس غريباً أن يشدني ماكتبت فقد قرأت أكثر من مرة ماذكرت عن الجماء وأخواتها والتكليلة وقريناتها والشيش ولداته والصفنة وما تبعها ..إن هذه القطرات المباركة سوف تكون بحراً زاخراً تندي رف التراث .. )

ويتابع رحمه الله تعالى : ( ليس هناك لذة تعدل لذة ذكرى الشباب والتذكر واستعادة الماضي من مثبتات الأواصر التي تربط المرء بتراثه حتى لايفقد توازنه الحضاري وأصالته وهي جوهر امتيازه عن سواه من أصحاب الحضارات … )

هذا هو الخويطر رحمه الله من جيل الرواد الذين تركوا بصماتهم للأجيال أثراً يقتفى وخطوات يُسار عليها إلى حيث الشموخ والأصالة والفضيلة .

أورد هذا لا لشىء إلا للتأكيد على ان ربط المرء بتراثه أصالةً ونهجاً يجب على الكُتاب القادرين أمثال الدكتور حمزه المزيني أن يسجلوا ذلك التراث ومسمياته كُلٌ في منطقته لأنه الأعرف بها وبذلك نسجل لأجيالنا ذخائر بدأت تتلاشى لم يبق منها إلا القليل كما يقول أستاذ الجيل عبدالعزيز الخويطر رحمه الله تعالى …

وأقول هنا أيضاً لأبي فارس : أرأيت مقدار ماكتبت وليتك تعود مرة أخرى لتخرج لنا كتاباً مستقلاً عن التراث والتراثيات ومسمياتها بصورة أدبية كما ذكرت في فصول ( الحسا واخبار أبي .. وكفاح ام .. والأمراض .. وإطار النشاة .. والدهليس .. والراديو .. وألعاب الطفولة .. والسواني .. والشوك والأحذية ..)

حفظك الله ياأبا فارس وادام توفيقك واطال عمرك في طاعته وجعلك دائماً ممن يذكرون ويشكرون فأنت نموذج من نماذج العصامية والفخر في بلادنا .. وتحية لك من حسا العقيق بالمدينة المنورة .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟