
اختلاق القصص بين التشويق والتشويه (2)
ذكرت في المقال السابق القصة المختلقة على الشاعر (إدريس جمّاع) وقصيدته “أنت السماء” وكذلك نسبة قصيدة “إن حظي كدقيق” له، وتم تفنيد هذا الاختلاق الذي أراه ذا حدين، فهو يمضي بحده في اشتهار الشاعر والقصيدة، وبحده الآخر في الجناية على الشاعر الإنسان.
وأستدركُ هنا إن قصيدة “وﺍﻟﺴﻴﻒ ﻓﻲ الغمد ﻻ ﺗُﺨشَى مضاربُه ﻭﺳﻴﻒ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﻟﻴﻦ ﺑﺘّﺎﺭُ“ وهي بيت واحد فقط ينسب لـجمّاع وهو قول غير متحقق منه بل تم نفيه من قبل ذويه، والقصة التي حيكت حوله مع الممرضة التي كان يطيل النظر إليها إعجابًا بعينيها فارتدت نظارة لتخفي عينيها فقال ما قال، ووصف بأنه أبلغ بيت شعر عربي في الغزل، وهو ليس كذلك بل معنى مستهلك سُبِقَ عليه “كل السيوف قواطع إن جردت وحسام لحظك قاطع في غمده” وهذا ضمن موشح أندلسي لابن اللبانة الأندلسي المتوفى1113م.
وطالما ما زلت في رحلة مع شعراء السودان فلا بد من التعريج على شاعر متمكن من أدواته الشعرية وله فلسفة خاصة، بالذات في قصيدته الشهيرة “الغد” والتي تحول اسمها بتدخل معتاد ومسموح ومرحب به من سيدة الغناء العربي أم كلثوم إلى “أغدًا ألقاك”، الشاعر الهادي آدم والذي لم تسلم قصة قصيدته هذه من الاختلاق والتزييف بين التشوق والتشويه.
فقيل (تلفيقًا) إنه حين كان طالبًا في كلية دار العلوم، حدثت له قصة حب مع إحدى زميلاته وقررا الزواج بعد التخرج، ولكن الصدمة الكبرى وقعت حين قوبل طلبه بالرفض من والد الفتاة رغم ما ساقه من (جاهات) واصطحب من شخصيات لم يفلحوا في اقناع والد الفتاة بقبول طلب الهادي.
وحين عاد إلى السودان ظل جليسًا ومنعزلاً تحت شجرة لم يفارق ظلها، وفي أحد الأيام وصل إليه (مكتوب) من حبيبته تخبره وتبشره أن أباها قد وافق على طلبه، ففرح فرحًا (شديدًا) وكتب هذه القصيدة:
(أغدًا ألقاك يا لهف فؤادي من غدِ وأُحيّيكَ ولكنْ بفؤادي أم يدي
أم بطرفٍ خاشع اللمحِ كَلِيلٍ مُجهَد؟ لستُ أدري كيف ألقاكَ ولكني صَدي
ظامئٌ أرّقه البينُ وطولُ الأمد)
وقضى ليلته تلك قلقًا بانتظار الصباح ليسافر للقاهرة، فأخذته غفوة لم يستيقظ منها. هذه القصة (المختلقة) فالقصيدة غنتها أم كلثوم في أواخر السبعينيات أو بداية الثمانينات وتم تعديل بعض أبياتها -كعادة أم كلثوم-بوجود الهادي آدم(ذاته)وملحن الأغنية محمد عبد الوهاب والذي اختار القصيدة (صالح جودت) بطلب من أم كلثوم، أن يبحث عن قصيدة لشاعر سوداني لتغنيها فوجد قصيدة (الغد) في ديون (كوخ الأشواق). وقد مات الهادي آدم عام 2006م، لا في السبعينات وقت حدوث القصة الملفقة والمختلقة.!
ونلتقيكم في المقال القادم بمختلقات أخرى.
وغدا للحاضر الزاهر نحيا ليس الا
قد يكون الغيب حلوًا إنما الحاضر ….. أحلى)
*الهادي آدم.