الشاعر حسن صيرفي

  النقطة التي تتقاطع عندها كل الخطوط؛ إذ هو أحد الأدباء المؤسسين لكل ما يصدق عليه معنى القوة الناعمة في المدينة المنورة، ففي الثقافة والأدب هو ثاني اثنين قامت عليهما أسرة الوادي المبارك، وعماد من العمد التي نهض على أكتافها النادي الأدبي. وفي الفن والموسيقى؛ هو مؤسس جمعية الثقافة والفنون في المدينة المنورة، وفي مجال الرياضة كان المؤسس الرسمي لنادي أحد الرياضي، أما في عالم الصحافة فقد كان ظهيراً للأخوين علي وعثمان حافظ في إنشاء صحيفة المدينة.

   في العقد الثاني من القرن العشرين إبان الحرب العالمية الأولى ولد الصيرفي في أحلك أيام الناس في المدينة، حيث واقعة تهجير أهل المدينة، ليكون رقم 45 أو 145 من السكان المدنيين الذين لم تشملهم غوغاء التهجير، فأبوه الشيخ مصطفى العقبي يعد وقتذاك من أصحاب الحيثيات لدى فخري باشا، إذ كان شيخ الصاغة والصيارفة حينها.

   يخلط في شخصيته بين الأديب والأدباتي، بين العامي والمثقف، بين طبيعة الفن وطبع الحياة، ويتجلى ذلك في كل ملمح من ملامح حياته، فإذا ما تحدث تغلب عليه العامية الأليفة الملأ بالشحنات الثقافية والمعاني الفذة، يعرضها في دماثة بارعة وخفة ظل تكرع منها الأرواح قبل الآذان. لذلك يوصف أنه من كبار الحواريين (بضم الحاء) والحكائين الأفذاذ.. فإذا ما حاور فهو ذو قدرة فائقة على عقد الأواصر واكتشاف المشترك في السياقات المتناثرة بينه وبين قبيله، أما إذا ما أراد أن يفتله في الذروة والغارب فما هي إلا تعديلات طفيفة يجريها في السياقات نفسها لتنقلب كل واردة إلى شاردة.

   يقول عنه الأستاذ عبد العزيز الربيع (رحمه الله): ((متحدث لبق إذا جلس في مجلس سيطر عليه وملأه بأخباره ونكاته وتعليقاته فلا يترك مجالاً لقائل أو متحدث، وهو ينتقل بمستمعيه من بستان إلى بستان في رشاقة وخفة ظل وسرعة بديهة، ولقد أتيح للشاعر المصري محمد فهمي أن يحضر مجلساً من مجالس الأستاذ الصيرفي فخرج بعد انتهاء المجلس وهو يقول: هذا مدهش.. هذا أديب بالسليقة)).

  رغم كل هذا فقد كان يبتعد عن أي ضوء، بل لا يعرف كيف يمشي تحت الأضواء، لأنه كان يحب نفسه التي تتمتع بالصدق والانتماء، لذلك لم يخذلها بالخروج منها إلى ملابسة ما يزيفها أو يمنعها أن تمارس حقيقتها لئلا يفقد ضحكته الحرة المدوية

                       ابتسم للحياة إني أراها

                                    لا تساوي تجهم التقطيب

                        واتخذها كلعبة تتلهى

                                  بلهاها بين الضحى والمغيب

                       وإذا ما ظفرت يوماً بزاد

                                أكثر الزاد للرحيل القريب.

    عاش الصيرفي حياة خاصة فريدة كانت مصدر إشعاع ووعي لكثير من المثقفين.. حياة لا يديرها لولب العادة الذي يدير حياة الناس، مع الالتزام بالقيم العليا والأخلاق الفاضلة، وإهدار الأخلاق التي تشبه الأخلاق. وها هو يحدث عن دنياه:

سأقضي حياتي في ربوعك كيفما      يكــــــــون لأني راحل راحل عنك

ولا تخدعيني لســـــــــــــت غراً وإنما      أخادع نفسي حيث لا بدّ لي فيك

  وهو في الشعر معدود في مدارس الشعر الحديث/ وإلى مدرسة الأدب للحياة أو الأدب الاجتماعي، وهذا شأن الرواد إذ الأدب بالنسبة إليهم طريق للتنوير والإرشاد والإمتاع. يوجز الدكتور الخطراوي شاعرنا في قوله ((شاعرنا الصيرفي شاعر متعدد الجوانب، ثري الاتجاهات، نظم الشعر الوطني والغزلي والشعر الاجتماعي والوجداني، والشعر العربي الأصيل القوافي، والعامي الفكه الهادف، كما نظم كثيراً من كلمات الأغاني لجملة من الفنانين في بلادنا، حين كان الناس يتخوفون الدخول في هذا المضمار، ويعتبرونه نوعاً من المجازفة الفنية.

      وكان يرى الأستاذ الصيرفي أن للشعر مهمة اجتماعية وقومية، لذلك لم يخرج في غالب لغته الشعرية عن اللغة المألوفة بل إنه ميالٌ إلى التراكيب السهلة وإدخال المفردات العامية في قصائده الفصيحة، مراعياً الكتابة الأفقية أو المستوى الأفقي في الكتابة لأنه يراعي تفاوت جمهور الشعر ويستدرج أذواقهم، وليس الشعر عنده حكراً على تحرقات الذات والتفنن بالمفردات بل كل شيء في الدنيا يصلح للشعر وكل موضوع يعطي أسراراً شعرية، فالبساطة في رأيه هي المعيار لصدق الفكرة وبرائة الشعور، لذلك كان ينقاد لعريان الكلام وينفر من معتاصه على قول الهمداني.

      ومن شعره الاجتماعي الهادف الذي كان ينشر في الصحف والذي لا يخلو من فكاهة وتبكيت مناجاته لمراوح الحرم الشريف التي ظلت واقفة لا تتحرك مدة طويلة، ويهيب بها أن تتحرك وتدور:

    أمراوح الحرم الشريف تحركي     ماذا يضير لــو (انبرمت) قليلا

    هل علقوك لكـــــــــي تظلي زينة     فوق الرؤوس وما شفيت غليلا

    أو ما نظرت إلـى ثيابي قد جرت     وديانها عرقاً يسيل ســـــــــيولا

     ولم يترك الصيرفي جانباً من جوانب حياته المادية والوجدانية إلا أتى عليه شعراً، فقصائده في سيارته كانت من الشهرة بمكان جعلها تتردد بين كثير من العامة؛ التي منها:

             خرجت بســــــــيارتي مــــــرة     أروضها في طريـــــــق العقيق

             فقالت حنانيك في (سُستي)   من الرج في ســكرة لا تفيق

               ……. الخ

     توفي شاعرنا رحمه الله في محرم/1429هـ وهو في عشر المئة عام في المدينة المنورة ودفن في بقيع الغرقد.  

   وإليك أيها القارئ قصيدة (يا ليل) وهي من أنضج القطوف الوجدانية في شعر الصيرفي، يخاصم فيها الليل ويتقاضاه إنصافاً وعدلاً مستفهما متعجباً كيف خرج الليل عن هدأة السكينة إلى قلق السهاد.

يا ليل هـــــــل بيت أمرا  أين الصباح مضـــــــى وفــــرا

يا ليل مـــــــــن أغراك بي حتى كـــــــــأنك نلت أجرا

أتلفتنـــــــــي رفقـــــــــــا أأنت نذرت بي للبـــــــؤس نذرا

أيــــــــــن المفر وقد أحطـت على مــــن لأواك بحـــــــرا

نز الأســــــى من قلبي المكبول في الأصفاد أســــــرا

وتســــــــــربت نفســـــي مع الدمع الذي قد سال نهرا

وتهاطلت نقــــــــــم الحياة تخصني صــــــــــوبا وقطرا

والنوم إن شـــــــــــــــــــبراً دنوت له يفر النــــــــــوم مترا

يا ليل عســــــــفك لا يطـــــــــاق وإنني بالعطف أحرا

أرعى نجومك ســــارحاً أقتـــــــات طعم الموت صبرا

خــــــدي على كــــــفي وحينا باليدين أدق صـــــــدرا

وعلى الجبين أبت أصـــــــــــابع راحتي أن تســــــــتقرا

تغــــــدو وترجــــــع وارتعاش أناملـــــــي يزداد ذعـــــــرا

وتعود (تنقره) لتوقظ إن غفت في الرأس ذكــــرى

فإذا عييت وخلت إعيائـــي يقـــــــــود النوم قســــــــــرا

ألقي بجســــمي في الســــــرير ورغم ذاك أهب قهرا

لأطـــــــــوف في بيت وأهجر غرفتي لأحـــــــل أخـــرى

فأعـــــــد (مرتبتي وأطفئ لمبتي) وأكـــــــــــــــــن نزرا

وألف نفســــــــي بالدثار متمتما ســـــــــــــــورا وذكرا

متقلبا ذات اليمـــــــــــــــــين مواليا شــــــــــفعا ووتــــــــرا

وفراشـــــــــــــــي المقرور يلذعني فألقى منه نكــــــرا

ويلوح لــــــــــي وجه الحبيب يبعثر البســــمات سـخرا

فأهب مــــــــــــن عبثي وأوقد (لمبتي) وأظـــــــــل أقـــرا

وأقلب الأوراق لم أقرأ مــــن الصفحات ســــــــــــطرا

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟