رصاصة رحمة على الصحافة العجوز

مؤسسات تبيع مبانيها وأخرى تنتظر المعجزة

تحليل مضمون: حديث المدينة

لم يتجرأ قلم للوقوف – بموضوعية – على أسباب تردّي صحافة الورق ولم ينبري آخر مقدما حلولا علميّة تعيدها إلى أزمان التألق. فقط الكل يتابع وينتظر بل ويتأهب ليكونوا شاهدا على يوم نهايتها مشاركا في حمل جثمانها.

غاب أصحاب الآراء الناجحة وحل مكانهم الباكون على المصير والواقفون على أطلال التاريخ. غابت الرؤى المستنيرة والتحليلات الناجحة وبات الكل ينتظر ” معجزة ” في أيام خلت من المعجزات.

الصحافة الورقية لم تٌصب بسكتة دماغية – كما ظن البعض -ولم تسقط فجأة من برجها العالي بل للسقوط مقدمات وللسكتة دلالات قديمة لم يلتفت لها الأكثرية.

أسباب أوصلت الصحافة الورقية للنفق وقادتها لمصيرها المأسوف عليه يتصدّرها الإدارات التي تحمّلت مسئولية قيادة المؤسسات الصحفية وعجزت عن تقديم الرأي الناجح والفكرة الصالحة .

القائمون على إدارات المؤسسات الصحفية ثلة من المساهمين من أصحاب الأموال بينهم وبين الكلمة والرأي مسافات بعيدة ..دخلوا عالم الصحافة بغيّة الربح وأداروا صناعة الكلمة بنفس طريقة إدارة محلات الفول ومصانع الأسمنت.

لم يحترموا خُطاها البطيئة ولم يدركوا عظيم نفعها بل كان همهم الأول والأخير كم نبيع وكم نربح كل عام؟

ووقتما ترّنح البنيان لم يمدّ أحدهم يدا ليسند جدارويحول بينه وبين السقوط بل أغلق كل واحد خزانة ماله بجنازير الحديد مخافة أن تحمله الصحافة لخندق الإفلاس. واكتفى بالانتظار مع غيره لحظة قدوم المعجزة.

حلول كلاسيكية قديمة تباينت بين بيع المباني أو رهنها أو تأجيرها ولست أدرى إذا كان هذا فكر أصحاب الملايين فكيف يفكر البسطاء إذا وقعوا في دوامة الديون؟

الإعلان .. عاشت الصحافة الورقية السنوات العشر الأخيرة تتنفس برئة إعلانية واحدة فيما الرئة التحريرية ” معطوبة ” مريضة.  فالموضوعات القديمة يتم تدويرها بنفس طريقة تدوير النفايات ” عمالة تحت الكباري .. وافدون يسيطرون على حلقة الخضار ..زحمة في المطار ” عناوين تكررت مئات المرات. فما تكتبه عكاظ تُعيده المدينة وتنقله الجزيرة وتظن الرياض إنها حققت به سبقا.

غابت الموضوعات التي تلامس ذائقة القارئ. ونسينا أن علينا مواكبة العصر بفكر جديد ورؤى مهنية مختلفة لذا لم يكن مُدهشا لي وللمتابعين أن تسقط صحافة الورق في أول نزال حقيقي مع التقنية وأن تلقى الهزيمة الساحقة في معركتها مع السوشل ميديا بكل روافده ليس لأن الأخير خاض النزال بسيف حاد بل لأن الأول نزل الحلبة بصدر عار.

رئتا الصحافة – إعلانية وتحريرية – أصابهما العطب وباتت أنفاس الحياة عصيّة وغاب الطبيب .

توزيع الصحف الورقية ..  جرس الإنذار الذي كان يٌفترض أن ينبهنا منذ سنوات طويلة لمصير السقوط. فالتوزيع يتم بطرق بالية قديمة وبخطط تحكي الفشل الذريع.

غاب الابتكار ولم يفكر مسئول في آلية جديدة توصل الصحيفة ” المنسيّة ” لعين القارئ. ولعل المتابع لحراك توزيع الصحف بمصر ولبنان – نموذجين – رغم معاناة كلا البلدين من قلة الإعلان يرى أفكارا مُدهشة.

منافذ البيع تضع الصحيفة في مكان بارز وكأنها تجبر المارة على قراءة العناوين كما التقنية تم استثمارها بشكل راق لتكون رافدا معينا في رحلة توزيع الورق حتى الاشتراكات باتت هديّة لقناعة المسئولين بأن القارئ هو مكسب الفترة العاصفة ومع ما ذكرت تأتي أرصفة الشوارع الملأى بالصحف وصراخ الباعة العالي ” اقرا الحادثة ” .

حالة ممن الحصار التوزيعي الجميل تنتهي باختطاف القارئ وإجباره – إن جاز التعبير – على قراءة الصحيفة فيما نحن نكتفي بشركتين بعمالة وافدة مهمتها القاء الصحف أمام السوبر ماركت وكأن عامل نظافة يلقى البقايا في الحاوية الزرقاء ويتعاظم الأمر وقتما يحمل عامل المحال كومة الورق ليخبأها وراء الجدران لمكسبها وربحها الضعيف. كل ذلك يأتي متزامنا مع صرخات المشتركين بالصحف ممن ينتظرون قدوم الصحيفة كل صباح ..فيأتي الصباح بلا صحيفة ولا رسالة إعتذار.

غياب الإبتكار والتوزيع غير المدروس والاشتراكات المضروبة ثلاثية هوت بجسر الولاء والانتماء الذي جمع القارىء والصحيفة قديما .. والولاء – كما قالوا -كالزجاج إصلاحه عصيّ وجبره مستحيل.

توزيع الصحف في مصر ولبنان مسئولية يتحملها محترفون وفي بلادنا مهمة ثانوية يقوم به وافدون.

انتماء العاملين .. الكل يؤمن معي بأن الصحافة والعمل في محرابها الوردي كان حلم كل سعودي وسعودية لقناعتهم بأنها مهنة المبدعين من ذوي الفكر والرؤية والقلم ولكن ما أعلاها الحواجز والأسوار التي كان على الشباب أصحاب الطموح تخطيها. روتين مٌعطل ورواتب متدنية ودرجات مهنية غائبة وتقدير غائب ومستقبل مجهول. لهذا كان الهروب بل الفرار والبحث عن حلم بديل.

اليوم تبيع مؤسسات مبانيها فيما تؤجر أخرى مطابعها واتخذت ثالثة قرارها بإغلاق أبوابها وتسريح موظفيها فيما تحاول رابعة وتجتهد لضخ دم جديد في عروقها وينتظر البقية المعجزة مقدمة مراهم التخدير لعامليها بعنوان ” السماء ستمطر ذهبا ”

هل تدعم الحكومة رجال الأعمال أصحاب الملايين ممن اعتلوا هرم مؤسسات الورق؟ هل ستنتفض المؤسسات من وهدتها وتعود لمجد عشرين عاما مضت؟ هل ستتمكن المؤسسات الصحفية من الوصول لحالة التوازن ودفع مستحقات عامليها؟ هل   سيكون 2020 عام المعجزات وتمطر السماء فيه ريالات على الرؤوس؟

أسئلة تدور في المجالس منها ما يتناغم مع المنطق ومنها ما يحمل أصحابها لعوالم الخيال المريض.

وقتما تجتمع مجالس إدارات الـ (واشنطن بوست والنيويورك تايمز) لتتدارس بعقل وحكمة مصير الورق وتتخذ قرارات التحوّل الكترونيا يبقى لزاما علينا أن نخلع ” فروة الأسد ” ونفكر بنفس العقل وذات الموضوعية.

الصحافة كالخيل ..إن وجدتموه صحيحا معافى فصفقوا له حال ركضه وادعموه في الضمار أما إذا كان مريضا عطبت رئتاه وباتت حياته عبئا على حراسه وعشاقه ومحبيه فأطلقوا عليه رصاصة الرحمة كي ينام نومة المستريح.

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟