
المحاورات الشعرية إلى الطريق المنحدرة!
يظن البعض أن المحاورات الشعرية بدأت متأخرة ومنهم من ينسب بدايتها إلى بديوي الوقداني وشاعر يدعى الصليمي اللحياني، واستمرت بهذا الشكل الذي نشاهده اليوم.
ولكن الحقيقة –كما تذكر بعض المصادر- إن المحاورات الشعرية كانت أقدم من ذلك بكثير، حيث نسبت محاورة شعرية في العصر الجاهلي حدثت حين التقى الشاعر الجاهلي عبيد بن الأبرص بالشاعر امرؤ القيس بن حجر، فسأله عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال امرؤ القيس: ألق ما أحببت؛ فقال عبيد:
ما حبة ميتة أحيت بميتها … درداء ما أنبتت سنا وأضراسا؟
فقال امرؤ القيس: تلك الشعيرة تسقى في سنابلها … فأخرجت بعد طول المكث أكداسا
فقال عبيد: ما مُرتجاتٌ على هَولٍ مراكِبُها … يقطعنَ طولَ المدى سَيراً وإمرَاسا؟
فقال امرؤ القيس: تِلكَ النّجُومُ إذا حانَتْ مَطالِعُهَا … شَبّهتُهَا في سَوَادِ اللّيلِ أقبَاسَا
قال عبيد بن الأبرص: ما القَاطِعاتُ لأرضٍ لا أنيس بها … تأتي سِراعاً وما تَرجِعنَ أنْكاسَا؟
فقال امرؤ القيس: تلك الرّياحُ إذا هَبّتْ عَوَاصِفُها … كفى بأذيالهَا للتُّربِ كنّاسَا
إلى آخر المحاورة التي بلغت ثمانية أبيات لكل شاعر. هذا إن صحت الرواية، وهي مروية في الكتب التي تُعنى بالشعر الجاهلي، والتشكيك في صحتها وارد جدًا.
(والأوابد هي الشوارد من القوافي، والآبدة: الكلمة أو الفعلة الغريبة).
ثم كانت في العصر الأموي على شكل قصائد ينظمها شاعر وينقضها شاعر آخر، وهي ما تعرف بالنقائض وكان رموزها الفرزدق وجرير والأخطل ومن لف لفهم وانتصر لأحدهم ضد الآخر.
ومع مرور الوقت وتطور الاتجاهات وصلنا لما يعرف اليوم بفن (القلطة) أو المحاورة أو الردية، وتعدد المسميات حسب المناطق، وكان الهدف منها الترفيه وربما زاد إلى اثبات الشاعرية، ومناقشة بعض الأمور بين طرفين دون المساس بالمبادئ والقيم، وتخرج أحيانًا عن النص لكن تبقى في دائرة التحمل والتأويل، لما تتميز به من الرمزية.
وعرفنا نماذج مشرفة قادت هذا الموروث ومثلته خير تمثيل، من خلال طرحٍ راقٍوجمٍل شعرية مميزة، ومع بدايات توثيق المحاورات وتسجيلها زادت جماهيرهاوشعبيتها زيادة كبيرة جدًا.
ومن الجدير بالذكر أن بعض كبار الشعراء يرفضون المحاورة مع بعض الشعراء ذوي الطرح السخيف الهابط رغبة منهم بعدم الوقوع في وحل البذاءة والسقوط بقيم الشعر وإفساد الذائقة الشعرية.
لكن نظرًا للإقبال الجماهيري على هذا الفن، والأموال التي يتقاضاها الشاعر في إحياء (حفلة شعرية)، تطفل بعض الموغلين في الإسفاف والقذف والانحطاطيتباهون حين سماع صيحات (بعض) جماهيرهم الذين ربما لا يدركون أنهم يسيرون بالشعر إلى الطريق المنحدرة!
للأسف الشديد انحرفت أكثر المحاورات عن معناها وهدفها الحقيقي إلى الشتائم والانتقاص من قبيلة أو منطقة، ظلم من خلالها الشاعر بسبب هبوط طرحه نفسه أولاً والشعر ثانيًا والموروث ثالثًا، وبث الغل في قلوب الجهة المقابلة، دون أدنى إدراك لمسؤولية الكلمة.
يظهر بعضهم (كالمهرج) الذي يمتهن التهريج لإضحاك الآخرين بحركات جسدية تبعده عن الاتزان الرجولي، وتغيير في طبقات صوته ليطرب جماهيره، دون أن يلتفت لكلمة قد تخرج من فيه أمام الملأ لا يستطيع بعدها إلا أن يبحث عن طريقة للاعتذار!
لذلك على الجهات ذات العلاقة بالجوانب التراثية والثقافية أن تدرس طريقة تضبط فيها هذا الانفلات الاجتماعي من خلال أنظمة معتمدة تتعهد بها مكاتب تنظيم حفلات المحاورة، وألا يترك الحبل على الغارب ليعبث فيه بعض (حُطّاب الليل)، وألا يقود هذا الموروث الجميل من هم من (سقط المتاع)، كي نرتقي بهذا الفن الجميللسابق عهده من الرمزية والمناقشات الشعرية الهادفة بعيدًا عن (الدخلاء) عليه والذين لا يجيدون منه إلا التهريج والسب والشتم المباشر والمعاني السطحية التي لا علاقة لها بالشعر البتة. (لستَ منِّي إن حسبتَ الشِّعر ألفاظًا ووزنًا) * إيليا أبو ماضي