لا تعرف القائد من المقود!

أحيانًا لا تدري أتضحك من شر البلية، أم تبكي لوهن القيم عند أصحاب بعض النفوس، والمشكلة تكمن في (الأُرْبَة، وطرفيها). في لسان العرب لابن منظرو في باب الهمزة: “… والأُرْبَةُ: قِلادةُ الكَلْبِ الَّتِي يُقاد بِهَا، …”

وفي تاج العروس للزبيدي: “… الأُرْبَةُ (: القِلَادَةُ) أَيْ الكَلْبِ الَّتِي يِقَادُ بِهَا، وَكَذَلِكَ الدَّابَّة، فِي لغَة طَيِّىءٍ. (و) الأُرْبَةُ: أَخِيَّةُ الدَّابَّةِ، والأُرْبَةُ (: حَلْقَةُ الأَخِيَّةِ) تُؤَرَّى فِي الأَرْضِ، وجَمْعُهَا أُرَبٌ، قَالَ الطِّرِمَّاحُ: وَلَا أَثَرُ الدُّوَارِ وَلَا المَآلِى   ولكِنْ قَدْ تُرَى أُرَبُ الحُصُونِ…”

يبدو أن أماكن المشي التي خصصت لهذا الشأن حظيت بقبول لدى الكثير من الناس، فلا تكاد تمر بجانب ممشى إلا وترى الممارسين للمشي جماعات وأفرادًا شاغلين له، ومستمتعين كذلك. وكأن ثقافة المشي تحولت من ثقافة فردية إلى ثقافة مجتمعية، يمارسها الكثير من الناس رجالاً ونساء شبانًا وشيبًا. وهذا بلا شك هدف رئيس صحي ورياضي واجتماعي تحقق.

وإن كان هناك ما ينغص هذا المنظر الراقي بعض الممارسات من فئة (قليلة) إلا إنهم يثيرون الانتباه، بين إنكار الكبار، وربما اعجاب الصغار وأمثالهم، ومن أبرز هذه المنغصات مشاركة بعض ممارسي المشي لـ (الكلاب) بأشكالها المختلفة وأحجامها المتفاوتة!

والخشية من أن تتحول هذه (الصحبة) إلى ظاهرة دخيلة على مجتمعنا! فهي في تزايد ملفت.

من أين أتت هذه (الطامة)؟ ألم يجدوا من ثقافة الخارج إلا مرافقة كلب؟ والسير (معه) في الأماكن العامة بكل خيلاء وزهو!

هي ثقافة وافدة بلا شك، فالعرب إنما استعملوا الكلاب في الصيد والحراسة، لا في المرافقة والصحبة، والتسكع برفقتها، بل ربما يصل الأمر لمشاركتها في المأكل والمشرب والمجالسة في البيوت.

لن أخوض -هنا- في الأحكام الفقهية حول تربية الكلاب، لكن في جانب الذوق العام، والذي سبق سن نظام ومخالفات يعاقب على فعلها.

هل من الذوق العام أن يمشي رجلاً شيخًا كبيرًا أو امرأة أو أي شخص، ويكون منصرفًا لحديث مع مرافقه، أو مركزًا في سماع ما يفيده من خلال سماعة هاتفة، أو مبحرًا في خياله ومفكرًا في قضية تهمه، يتفاجأ بـ (كلب) حول قدميه يمنة ويسرة؟!

وحين يُصدر ردة فعل (يفزع) يتفاجأ (بقهقهات مائعات سامجات مقرفات)! لم يحترم مطلقها سن شيخ ولا حياء امرأة ولا فزع طفل.

عجيب أمر هؤلاء، منظرهم مضحك مبكي، فلا تدري (أحيانًا) مَن القائد ومَن المقود! فـ (هذا) مرة يتقدم ويقود (صاحبه) وأخرى يتنازل عن القياد لصاحبه وهو يتبعه!

جاء في كتاب (شرح سنن أبي داود) لـ عبد المحسن العباد في (شرح حديث عبد الله بن مغفل في قتل الكلاب): (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم).وأوردت هذا الخبر لاستهجان الكلب في الأصل.

ذكر لي أحد الأصدقاء ونحن نتحدث حول هذه القضية: (لو لاحظت كثرة العيادات البيطرية ورأيت عدد المراجعين بـ (كلابهم) لعلاجها وتطعيمها بزيارات منتظمة لزاد عجبك! إنهم يهتمون بصحتها أكثر من اهتمامهم بصحة أنفسهم وأهليهم، ظننته قالها ساخرًا، لكنه أصر وأكد ورفع صوته متحمسًا)! فيا للعجب!

للقائمين على مشروعات (المماشي) نظفوها قبل أن تُهجر أو تزيد قذارتها بمثل هذه الممارسات المقززة.

وطالما الحديث عن صديق البعض، فلا بأس من تطواف يسير في كتب الأدب واللغة، ففي كتاب (سمط اللآلي في شرح أمالي القالي) لأبي عبيد البكري: “… وفي إنكار الكلب يقول عيينة بن أسماء بن خارجة يهجو:

لو كنت أحمل خمراً يوم زرتكمُ       لم ينكر الكلب أني صاحب الدار

لكن أتيت وريح المسك يفغمني     وعنبر الهند مشبوب على النار

فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني         وكان يعرف ريح الزقّ والقار“.

وفي كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة: وخرج أبو دلامة مع المهدىّ وعلىّ بن سليمان إلى الصيد، فسنحت لهم ظباء، فرمى المهدىّ ظبيا فأصابه، ورمى علىّ بن سليمان فأصاب كلبًا، فضحك المهدىّ وقال لأبى دلامة: قل في هذا، فقال:

قد رمى المهدىّ ظبيا        شكّ بالسّهم فؤاده

وعلىّ بن سليمـــا        ن رمى كلبا فصاده

فهنيئًا لهمـــا.. كل       أمرئ     يأكل زاده

وفي كتاب (حياة الحيوان الكبرى) للدميري: ” [فائدة أدبية]: دخل أبو العلاء المعري يوما على الشريف الرضي فعثر برجل، فقال له الرجل: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا. فقربه الرضي واختبره فوجده علامة. ثم جرى ذكر المتنبي يوما فتنقصه الشريف الرضي وذكر معايبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله: لك يا منازل في القلوب منازل

لكفاه فضلا وشرفا، فغضب الشريف المرتضى وأمر بسحبه برجله وإخراجه…” والقصة مشهورة ومعروفة وسبق أن ذكرتها في مقال سابق هنا في (تيزار).

قفلة: في قصة عمر بن أبي ربيعة والمرأة في موسم الحج حين اعترض طريقها لرمي الجمرات مرتين وفي الثالثة أحضرت معها أخاها، فانتهى عمر ونأى خوفًا فتمثلت بقول النابغة: (تَعدو الذِئابُ عَلى مَن لا كِلابَ لَهُ   وَتَتَّقي مَربَضَ المُستَنفِرِ الحامي)

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟