
الزهرة الوهمية
جميل البدراني
باحث دراسات عليا – إدارة مستشفيات
ما من زهرة خُلقت لتبقى، تشرق لتبهج الناظر وتذبل لتمنح الحياة معنى التجدد، عبر جذور لا تُرى ممتدة في الأعماق ومتماسكة، تحمل سر حياتها وقوتها لترسم ملامح جمالها وتجددها، إلا أن هناك زهرا لا يتجدد ويعيش على ما تبقى من قوته.
وفي زمن تتسارع فيه وتيرة المعلومات، باتت المصداقية عنصرا أساسيا لبناء الثقة، ومع ذلك تلجأ بعض المنظمات إلى إظهار نتائج إيجابية مغايرة للحقيقة، في محاولة لتحسين الصورة العامة أو تحقيق مكاسب سريعة، ورغم أن هذا السلوك قد يبدو للبعض وسيلة سهلة لتجاوز الأزمات، إلا أن عواقبه غالبا ما تكون خطيرة وبعيدة المدى.
حيث أصبحت القرارات الإدارية الحديثة تعتمد بشكل متزايد على دقة البيانات وصحتها، ومع تطور الأنظمة الرقمية، أصبحت المنظمات تجمع كما هائلا من المعلومات يوميا، غير أن قيمة هذه البيانات لا ترتبط بحجمها فقط، بل بدقتها وصحتها، فالدقة تمثل الأساس الحقيقي الذي تُبنى عليه مؤشرات الأداء، ومن دونها تصبح هذه المؤشرات مضللة وقد تؤدي إلى نتائج كارثية.
في عالم منظمات العمل، ثمة أرض تنبض بالحياة ولا تزدهر إلا حين تستند إلى جذور راسخة يغذيها تنظيم منهجي من قواعد مستدامة، ومبادئ وقيم، ونظم سليمة تصدر من خلالها بيانات دقيقة ومطابقة للواقع.
وتعد مؤشرات قياس الأداء إحدى أهم الأدوات الإدارية التي تستخدم لفهم مستويات الإنجاز وتحسين العمليات وتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وعلى الرغم من أن هذا المفهوم يبدو حديثا ومرتبطا بالتحول الرقمي، فإن جذوره تمتد لأكثر من قرن، فقد مرت عملية قياس الأداء في المنظمات بمراحل متعددة تراكمت فيها الخبرات والنماذج.
ومع بدايات القرن الماضي، مع ظهور العالم فريدريك تايلور ونظرية الإدارة العلمية التي شكلت الأساس العلمي الأول لفكرة قياس الأداء التي تعتمد على دقة البيانات، حتى شهدت فترة الخمسينيات طفرة جديدة مع طرح العالم بيتر دركر، والذي دعا إلى ربط الأداء بأهداف واضحة وبيانات دقيقة.
وفي بداية التسعينيات، أصبحت نقطة التحول الحقيقية عندما قدم كابلان ونورتن نموذج بطاقة الأداء المتوازن، مرتكزا على دقة البيانات، وأصبح مفهوم مؤشرات الأداء جزءا أساسيا من الخطط الاستراتيجية للمنظمات.
إن نتائج مؤشرات الأداء الوهمية أو غير الصحيحة لا تعكس الأداء الحقيقي، وتعد من أخطر الأمور التي يمكن أن تواجه أي منظمة؛ لأن الجهود تبذل لتحسين الأرقام بدلا من استغلالها لتطوير، وآثارها ليست آنية قد تفتح الباب أمام ممارسات غير أخلاقية تهدم أساس العمل المهني.
نذكر في عام 2016 فضيحة بنك ويلز بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يتم فتح ملايين الحسابات الوهمية دون علم العملاء؛ بسبب إدارة البنك التي كانت تضع مؤشرات أداء تعتمد فقط على عدد الحسابات الجديدة لكل موظف، وربطتها بالمكافآت والترقيات، ونتج عنها تحقيق نجاح وهمي بأهداف غير واقعية ألحقت ضررا كبيرا بسمعتها في القطاع المصرفي بين العملاء والمستثمرين.
كذلك قضية طائرات بوينغ 737، حيث كان قسم الهندسة يقيم بناء على مؤشرات تتعلق بسرعة تسليم الطائرات وخفض التكلفة، لكن هذه المؤشرات لم تعطِ وزنا كافيا لسلامة التصميم واختبارات الأمان، وتم تقليل الوقت المخصص للفحص والجودة من أجل تحقيق أداء أفضل، نتج عنها وقوع حادثين مأساويين في 2018 و2019 راح ضحيتهما 346 شخصا، وتعليق مئات الطائرات حول العالم، وخسائر تتجاوز 20 مليار دولار على الشركة.
إن المؤشرات الوهمية لا تضلل الإدارة فقط، بل يمكن أن تقود إلى الانهيار، فالمنظمات التي تهتم بالسطح وتغفل العمق كمن يسقي الزهر وينسى الجذر، وتنشغل بالمظاهر والنتائج الفورية، لكنها تغفل عن سر الديمومة والاستقرار.
إن التنظيمات الداخلية المبنية على خطط مهنية ليست أوراقا تحفظ في الملفات، بل هي كائن حي يتنفس من صدق المبادئ، وكل إدارة تحسن غرس جذورها في أرض صلبة من التخطيط والرؤية، ستجني زهرا لا يذبل، ونموا لا يتوقف.
«ازرعوا الجذور أولا، وسيتكفل الزمن بأن يجعل منظمتكم تزهر».