إطلالة على التاريخ الحضاري لمنطقة المدينة

بقلم : د. سعيد بن دبيس العتيبي

تقع منطقة المدينة المنورة في شمال غرب المملكة العربية السعودية، ويحدها من الشمال والشمال الغربي منطقة تبوك والبحر الأحمر، ومن الشمال الشرقي منطقة حائل ومن الجنوب منطقة مكة المكرمة، ومن الشرق منطقتا الرياض والقصيم ومن الغرب البحر الأحمر.

وللمدينة المنورة عمق حضاري وتاريخي يمتد من عصور ما قبل التاريخ حتى الوقت الحاضر؛ وتعود أقدم دلائل الاستيطان البشري في منطقة المدينة المنورة إلى الفترة الأشولية المتوسطة من العصر الحجري القديم الأسفل(250.000 – 100.000 سنة)، إذ عثر على مواقع لآثار تلك الفترة في حرّة خيبر، وغيرها من المواقع فيما بين المدينة والعلا، حيث وجد مواقع اشتملت على أدوات حجرية منها الفؤوس والقواطع وأدوات الطرق، وفي نفس المواقع وجدت أنماطاً من الأدوات الحجرية ومواقع تصنيعها المنتمية للعصر لحجري الوسيط (120.000- 34000سنة)، ومنها الأنصال والشفرات والمكاشط والأزاميل بالإضافة إلى بعض المنشآت الحجرية التي يُرجح أنها أنماط لمساكن ذلك العصر.

وازدادت كثافة الاستقرار البشري في المنطقة خلال العصر الحجري الحديث (10.000- 3000 ) سنة ق.م، حيث وجدت بالإضافة إلى مواقع تصنيع الأدوات الحجرية منشآت حجرية متنوعة من الدوائر والمذيلات في حرة خيبر وحرة عويرض وفوق قمم الجبال وسفوحها، كما في جبل عير جنوبي المدينة المنورة، وجبال البيضاء إلى الشمال من المدينة المنورة، وحواف ودي العقيق ووادي الغرس، ومما يرتبط بفترة العصر الحجري الحديث موضوع الرسوم الصخرية، وقد تميزت منطقة المدينة المنورة بتعدد مواقع الرسوم الصخرية، حيث وجدت في مواقع الجبال في كل من الصويدرة والحناكية ومحافظة العلا ومدائن صالح وينبع النخل.

وفي فترة العصور القديمة عُرفت المدينة المنورة باسم يثرب، وورد هذا الاسم في سياق أحداث حضارات تلك الفترة، وأقدم مورد أُشير فيه إلى اسم يثرب هو نص كتابي يعود إلى الملك البابلي نبونيد (556- 539 ق.م) أخر ملوك الدولة الكلدانية (العصر البابلي الحديث) وهو نقش وجد على مسلة من الحجر عثر عليها في خرائب الجامع الكبير في حرّان، يعود إلى منتصف القرن السادس ق.م، ويشير النقش إلى حملة قام بها نبونيد على تيماء، وأنه اتخذها عاصمة لملكة لمدة عشر سنوات، ووصول حملته إلى عدد من المدن في شمال وشمال غرب الجزيرة العربية وهي دادان( العلا) وفدك (الحائط) وخيبر ويثربو( يثرب).كما ورد اسم المدينة في المصادر الكلاسيكية في جغرافية بطليموس وأصفيان البيزنطي باسم يثربه.
وكان لموقع يثرب الجغرافي ارتباط بنشأتها لاسيما الخصائص الطبيعية، من خصوبة الأرض وتوفر الماء، مما أسهم في الاستقرار البشري، إلى جانب موقعها على الطريق التجاري القديم المعروف بطريق البخور، الذي كان يربط جنوب الجزيرة العربية ببلدان حوض البحر الأبيض المتوسط ومصر، وسلكته قوافل العرب التجارية، منذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد.
وتعد مملكة معين من أشهر الممالك العربية التي نشأت في جنوب الجزيرة العربية في القرن السادس ق.م، واعتمدت هذه المملكة في اقتصادها على التجارة. ولهذا حرص حكامها على إضفاء شرعيتهم السياسية على بعض المدن الواقعة على امتداد طريق البخور في وسط الجزيرة العربية وشمالها لحماية الطريق وتأمين قوافلهم التجارية، واستقرت جاليات معينيه في تلك المدن، ويؤكد ذلك وجود كتابات معينيه منقوشة على احد المقابر في العلا تشير إلى أسماء أشخاص وآلهة معينيه، كما ورد فيها ذكر يثرب ومؤان وعمون وغزة. وحين قامت مملكة سباء بعد معين في القرن الأول ق.م، أسسوا مراكز تجارية جديدة وورثوا المراكز القديمة لمعين ومنها يثرب.

ومنذ القرن السادس قبل الميلاد قامت ممالك متعاقبة في منطقة العلا إذ قامت مملكة دادان ولحيان، ثم مملكة الأنباط التي ظهرت منذ القرن الرابع ق.م الميلاد حتى القرن الأول الميلادي، في جنوب الأردن، واتخذوا البتراء عاصمة لهم، وتوسعت دولتهم جنوبا حتى مدائن صالح التي اتخذوها عاصمة ثانية لهم.
ومنذ أن وصل رسول الله صلى الله عيه وسلم إلى يثرب في السنة الثالثة عشر من البعثة النبوية أصبحت هي عاصمة الدولة الإسلامية وظلت كذلك في عصر خلافة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم، إلى أن جاء علي بن أبي طالب رضي الله إلى الخلافة فنقل عاصمة الخلافة إلى الكـوفة ســنة (36هـ/656م)، وآلت الخلافة بعد علي بن أبي طالب إلى الأمويين ثم العباسيين وبالتالي انتقلت عاصمة الخلافة إلى دمشق في زمن الأمويين ثم إلى بغداد في زمن العباسيين، وبذلك أصبحت المدينة المنورة ولاية تابعة لتك العواصم يعين عليها الخلفاء أمراء من قبلهم. وارتبطت المدينة المنورة اسميا بالدولة الطولونية(254-292هـ/868-905م) والإخشيدية (333-357هـ/945-968م) كما ارتبطت بالدولة الفاطمية (267-567/ 881-1172م)، وخلال فترة دولة المماليك ( 648-922هـ/1250-1516م) ارتبطت المدينة المنورة بسلاطينهم ارتباطاً محدوداً شمل من الناحية السياسية تولية أمراء المدينة أو عزلهم. وبعد ضعف الخلافة العباسية واستقلال ولاياتها تنافس على أمارة المدينة المنورة الطالبيين من بني الإمام الحسن بن علي وبني الإمام الحسين بن علي وبني جعفر بن أبي طالب واستقر الحكم لبني الحسين بن علي بن أبي طالب حتى قيام الدولة العثمانية سنة 923هـ/ 1517م حيث دخلت في حكم دولتهم، ودخلت المدينة المنورة تحت حكم الدولة السعودية الأولى من سنة 1220 ه إلى سنة 1226هـ، وتحت حكم الأشراف الهاشميين اللذين انتزعوها من العثمانيين من سنة 1337هـ حتى سنة 1344هـ حين دخلت تحت لواء الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله.

شهدت منطقة المدينة المنورة على مدى تاريخها تطوراً ونمواً حضارياً في مختلف المجالات، وتدل الآثار المنتشرة في كافة أرجاء المنطقة على ملامح ذلك التطور. إذ تزخر المنطقة بالعديد من المواقع الأثرية من مختلف العصور فمن عصور ما قبل التاريخ وجدت آثار العصر الحجري بمختلف فتراته: القديم والأوسط والحديث (250000 – 10000 سنة) في حرة خيبر، وتتنوع هذه الآثار بين مواقع تصنيع للأدوات الحجرية ومنشآت حجرية مختلفة الأشكال والوظائف، كما وجدت مواقع متعددة تشتمل على فن الرسوم الصخرية تعود للعصر الحجري الحديث في كل من الصويدرة والحناكية والعلا وخيبر ووادي نخلي في ينبع النخل. وتتنوع موضوعات الرسوم الصخرية لتشمل موضوعات متعددة من مشاهد الحياة اليومية لإنسان ذلك العصر فمنها مناظر صيد ومناظر معارك، ومناظر طقوس عبادة، وصور لحيوانات مختلفة تعكس جوانب من الحياة الفطرية في تلك العصور.
ومن فترة ما قبل الإسلام توجد آثار مدائن صالح الفريدة بمقابرها وبيوتها المنحوتة في الجبال التي تعود لعصر مملكة الأنباط. كما يوجد في العلا آثار الخريبة وجبل عكمة ومقابر الأسود المنحوتة في جبال العلا التي تعود لحضارة مملكتي دادان ولحيان التي قامت في العلا منذ القرن السادس قبل الميلاد، وقد أبرزت الحفريات الأثرية التي قامت بها جامعة الملك سعود في موقع الخريبة آثار تعود لمملكتي دادان ولحيان تُكشف تفاصيلها لأول مرة، شملت نماذج من المساكن وبيوت العبادة والمنحوتات والقطع الأثرية وغيرها، ويوجد العديد من مواقع النقوش القديمة منتشرة في نواحي منطقة المدينة المنورة، منها النقوش الثمودية والنبطية، ومن أهم النقوش التي وجدت في المنطقة النقوش الدادانية واللحيانية والنقوش العربية الجنوبية (السبئية والمعينية)، التي ووجدت في العلا؛ وقد تناولت هذه النقوش موضوعات مختلفة منها نصوص دينية ونصوص تأسيسية، وسياسية واجتماعية.

وتعتبر فترة العصر الإسلامي من أهم الفترات التاريخية والحضارية للمدينة المنورة، فمنذ وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إليها مهاجراً من مكة المكرمة أصبحت هي عاصمة الدولة الإسلامية، والقاعدة التي انتشر منها الإسلام في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم؛ وفي منطقة المدينة المنورة العديد من المواقع التي شهدت بداية الدعوة الإسلامية، وارتبطت بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل موقع غزوة بدر وغزوة احد وغزوة الخندق، وغزوة خيبر؛ وشهدت منطقة المدينة خلال العصر لإسلامي نمواً حضاريا في مختلف المجالات العمرانية والاجتماعية والاقتصادية، فمنذ وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إليها بدأ بتنميتها، فبدأ ببناء مسجد قباء ومسجده صلى الله عليه وسلم، حيث يجتمع المسلمون للعبادة والتشاور والتكافل. وابرم وثيقة بين المسلمين واليهود لتنظيم شؤون مجتمع المدينة وحدد للمدينة سوقها المعروف بسوق المناخة، وحدد حرمها، ومنح الإقطاعات لعدد من الصحابة لإحياء الأرض وزراعتها، ووجدت في المنطقة العديد من السدود الأثرية التي تدل على نشاط زراعي وتطور في مجال عمارة وهندسة بناء السدود لدى سكان المنطقة، ففي خيبر يوجد سد القصيبة وسد المشقوق وسد الحصيد، وسدود أخرى في المنطقة مثل سد معاوية بوادي الخنق وسد الرانوناء في المدينة المنورة.

وتذكر المصادر أنه وجد في ولاية المدينة المنورة أكثر من ثمانين قرية،ارتبط بعضاها بأنشطة زراعية وتجارية، ومرافق على طرق الحج. واتصلت المدينة المنورة بالحواضر والمراكز الرئيسية داخل الجزيرة العربية وخارجها بشبكة من الطرق، فأليها تصل طرق تتفرع من طريق الحج العراقي، وترتبط بدمشق بطريق الحج الشامي وبمصر وأفريقيا بطريق الحج المصري بفرعيه الساحلي والداخلي،وفي المدينة المنورة تجتمع الطرق لتتحد القوافل في مسيرها إلى مكة المكرمة عبر طريق المدينة مكة. الذي يعتبر من أهم الطرق في الجزيرة العربية وأقدمها، فقد استخدم منذ عصور ما قبل الإسلام لتجارة قريش بين مكة والشام، وعلى هذا الطريق العديد من الأماكن التي ذُكرت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة، والمواقع التي نزل بها أثناء توجهه إلى مكة معتمراً وحاجاً وفاتحاً؛ ويوجد في إرجاء المنطقة العديد من مواقع البلدات والقرى والمواقع الأثرية التي تعود للعصر الإسلامي بفتراته المختلفة، ومن أبرزها ميناء الجار على ساحل البحر الأحمر، والمابيات في العلا التي عرفت في المصادر المبكرة باسم قرح وأنها قصبة وادي القرى وسوقها، واشتهرت بكونها محطة على طريق الحج الشامي وأبرزت الحفائر الأثرية التي أجريت بها مكونات مدينة إسلامية ازدهرت منذ القرن الأول الهجري حتى القرن السابع الهجري. ومن المدن والمواقع الأخرى العيص وينبع النخل والحوراء وغيرها، وعلى امتداد طرق الحج نشأت محطات ومدن عامرة بمرافقها وأسواقها، مثل الربذة ومعدن بني سليم (مهد الذهب) والسوارقية وصفينة وحاذة. وتزخر المدن والمواقع الأثرية بالآثار فعلى مدن ومحطات طرق الحج ومساراتها توجد برك للمياه وأبار وقنوات وسدود وحصون وقلاع وقصور ومساجد وأسواق، وأعلام .. كما توجد العديد من مواقع النقوش الإسلامية على امتداد طرق الحج وفي غيرها من المواقع مثل رواواة والصويدرة وغيرها. ووجدت العديد من النقوش التي تعود للقرون الأولى من الإسلام تحمل أسماء شخصيات من الصحابة رضوان الله عليهم وذات أهمية في دراسة تطور الخط العربي، وهناك نقوش أخرى ذات دلالات تذكارية ودينية واجتماعية وتأسيسية. تعد دراستها في غاية الأهمية لدراسة النواحي المختلفة لمنطقة المدينة المنورة. سواء كانت اجتماعية آو تاريخية أو سياسية أو عمرانية وخلافة.

ومن هذا العرض الموجز يتبن الأهمية التاريخية والحضارية والأثرية للمدينة المنورة، وأهمية تكثيف الدراسات الأثرية في مواقعها المختلفة وإبراز مواقعها وتأهيلها للزوار وإنشاء المتاحف المتخصصة التي تبرز أثارها ليقرأ الزوار في مواقعها ومتاحفها تاريخ المدينة العريق وبخاصة تاريخ الإسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم .

المصادر والمراجع:

– جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام،( بغداد، د .ن 1423هـ/ 1993م)
– سعيد دبيس العتيبي، قرى المدينة المنورة ومنابرها من بداية العصر الإسلامي حتى أول القرن العاشر الهجري، مجلة العرب ج9 ،10 و ج11 ،12 السنة 53 عام 1439هـ/2018م.
– الراشد، سعد بن عبد العزيز وآخرون، آثار منطقة المدينة المنورة، وزارة المعارف، (الرياض، 1423هـ/ 2003م).
– الشريف احمد بن محمد صالح الحسيني البرادعي، المدينة المنورة عبر التاريخ الإسلامي، ( د.م : د.ن ، 1391هـ/ 1972م).
– العباس بن أحمد القلقشندي، صبح الأعشى،(القاهرة: المطبعة الأميرية، 1332هـ/ 1914م).
– عباس سيد أحمد، “العصور الحجرية المبكرة في المملكة العربية السعودية”، حصاد ندوة آثار شبه الجزيرة العربية عبر العصور7-9 مايو 2006م، (سلطنة عمان: وزارة التراث والثقافة ، د.ت).
– عبد الرحمن الكباوي وآخرون،” حصر وتسجيل الرسوم والنقوش الصخرية، الموسم الثالث، 1406هـ”، أطلال، العدد الحادي عشر،( الرياض: إدارة الآثار والمتاحف بوزارة المعارف، 1408هـ/ 1988م).
– فايز موسى البدراني، أمارة المدينة في الحكم السعودي الأول، جريدة الجزيرة، العدد 13541، 6 ذو القعدة، 1430هـ.
– مايكل جلمور وآخرون،” تقرير مبدئي عن مسح المنطقتين الشمالية والشمالية الغربية1401هـ/ 1981م”، أطلال، العدد السادس،( الرياض: إدارة الآثار والمتاحف بوزارة المعارف، 1402هـ/1982م).
– نورمان والين وآخـرون،” تقرير عن موقع يعود للعصر الحجري الحديث الأدنى (البليستوسيني) قرية الشويحطية في شمال المملكة العربية السعودية ” أطلال، العدد العاشر،( الرياض:إدارة الآثار والمتاحف بوزارة المعارف، 1406هـ/ 1979م).
– اليستر كليك وآخرون، “التقرير المبدئي لمسح المنطقة الغربية عام 1980م”، أطلال، العدد الخامس،(الرياض: إدارة الآثار والمتاحف بوزارة المعارف، 1401هـ/1981م).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟