
السماح بالرحيل
بقلم: سمية جلّون
أثار كتاب دكتور هاوكنز فضول القُرّاء في “الوعي” عن كيفية الوصول للشعور بالتسليم المطلق وفك التعلق الدنيوي بالماديات والممتلكات والأفكار وحتى الاشخاص وترك بصمة سريعة المفعول في التوازن النفسي للتخفيف من معاناة البشر عبر الأزمنة ومختلف الظروف.
حيث قاد القاريء في كتابه إلى مرحلة يفصل فيها نفسه عن شعوره بالحاجة الماسة لكل ما يرغب بلمسه أو امتلاكه، وكل ما يجعله يشعر بالأمان اللحظي واستبدله بمحاولة الاستشعار بالرضا والإطمئنان والتروي وغرس شعور السلام الداخلي كونها من مراحل الملكية الشعورية والتي لا تُقدر بثمن مادي أو جهد عصبي يستنفذ طاقات الانسان، مسلماً أمره لما تصنعه الأحداث اليومية في عالمه ومراقباً لما يحدث حوله، مقتنعاً بأن كل ما يسعى إليه سيأتيه ولو بعد حين.
وقام د.هاوكنز بتفصيل وسرد بعض القصص الواقعية للتسليم التي نالت إعجاب الجمهور وظلت في أذهانهم لارتباطها بأشخاص عاشوا حياة عادية كباقي البشر ولكن تسليمهم لكل أمورهم وتركها دون تعلق بها جعل حياتهم أكثر رضا وسعادة.
وفي محاولتي لربط فكرة هذا الكتاب بمبدأ التسليم لخالقنا والتوكل عليه وجدت أن كل مادة أو هدف أو حتى فكرة نعتقد أنها ستكون سبب سعادتنا، أو قد تصل بنا إلى النجاح أساسها شعور الإطمئنان بأننا على قيد الحياة، مسلّمين أمرنا كله لله عزوجل، في حين أننا كنا في الأصل كذلك، حيث وُلدنا على الفطرة السليمة ولم نكن نحمل هم غذائنا في بطون أمهاتنا، ولم نكن نخاف من أي شي لم نتبرمج على الخوف منه أو نقلق من فقدان وظيفة أو ابن أو ساعة باهظة الثمن.
فما حدث لنا هو كل لحظة كنا نعيشها لإرضاء الآخرين أو الحصول على استحسانهم أو التفاخر بالإنجازات المحققة تبعاً لسعينا المستمر والبحث عن الأفضل دائماً، فتعلقنا بالأموال والمناصب والسيارات والمشاريع والممتلكات والأزواج والأبناء والدراسة وإدمان العمل، وتعلقت قلوبنا بهم وتركنا من خلقنا وخلقهم باحثين عن رضا وسعادة بعيدة جداً عن الحقيقة الواقعية، تركنا الإتصال بمصدر الحياة الذي يجلب لنا كل ما سبق.. فكان هذا التعلق خيبة تُعيدنا إلى الدعاء وتوثيق الصلة بالخالق، حتى لا تكون الدنيا أكبر همنا.
وما كانت هذه الرغبة إلا قوة تُنهك كل خلية في أجسادنا وعقولنا جعلتنا نتعلق بكل هدف يضغط علينا لنحصل عليه.. في حين أن السعي قدر المستطاع ثم التسليم والرضا بما سيحدث هي الخطوة التي نستطيع أن نسترخي بعدها لنرى ما إذا كنا سنسعد بهذا الهدف أم أنه لم يُقدّر لنا.
وشدد هاوكنز على أن قيمة هذا التسليم تبدأ بالتركيز في اللحظة وعيشها والاستمتاع بها كونه مؤمناً بمبدأ أن أفضل اللحظات التي تعيشها في حياتك هي تلك التي تقضيها مع أُسرتك.
هنا توقفت للحظة مستشعرة هذا الأمان الذي فقدته مؤخراً جراء وفاة والدي العزيز.. والذي جعلني أعي بأن التعلق بأمان الله هو السبيل إلى الأمان الحقيقي والذي جردني من كل مافي الحياة الدنيا.
أما أبي.. فسلّم أمانته إلى خالقه راضياً قانعاً مؤمناً ومبتسماً، تاركاً لي قطعة من ردائه ونسخاً عديدة من كتبه، استطاع أن يسمح ويتسامح بالرحيل ولم ينتظر.
في رثائه لم يتبقى من رصيد الدموع قطرة
ولم يتبقى من رائحته إلا قطرة..
اللهم برداً وسلاماً إلى روحه، اللهم متعه في جنتك، واسقه من حوض نبيك، وأكرمه بلذة النظر لوجهك الكريم.