مرض الحنين للماضي.. (النوستالجيا)

(الله على أيام زمان)! جملة نسمعها في كل أسبوع مرة على الأقل، أثناء اللقاءات الأخوية والأسرية والاجتماعية، وبالتحديد يكون مورد هذه الجملة عند نقد ظاهرة اجتماعية حالية.

وما أن يتفوه أحد بهذه الجملة -أو إحدى مرادفاتها- حتى ينساق الجميع إلى الحديث عن الماضي وبساطة الحياة وروح المحبة والألفة الاجتماعية وحلاوة العيش و … (المثاليات والإيجابيات فقط)

فيسري بهم الحديث عن الماضي (الجميل) من عاصره يتحدث بشعور عاطفي صادق ومن لم يعاصره ينصت مشدوهًا مبحرًا بخياله إلى صورة مثالية للحياة يتمنى أن يعيش تجربتها!

إنها حالة مرضية نفسية لا أكثر! فلا تخدعكم هذه الذكريات، فتنقموا على وقتكم هذا وتتمنوا الحياة على أنماط الحياة في عصور سابقة لم تعرفوا منها إلا نماذج بسيطة لجوانب إيجابية محددة.

هذه حيلة هروبية من الحاضر نتيجة القلق الذي يعيشه الفرد أو الجماعة من ترقب المستقبل ونتائج لقرارات مختلفة، ينجح مخ الإنسان في رسم طريقها كي يرتاح الجسم من مخاطر انعكاسات القلق على المنظومة الصحية للجسم، وينجح غالبًا في تمريرها، يسانده في نجاحها ما يعرف بـ (ثقافة القطيع) والانقياد وراء من يتصدر قيادتهم إلى العيش في خيال الماضي!

مصطلح (نوستالجيا) ظهر في القرن السابع عشر، استخدمه الطبيب السويسري (يوهانس هوفر) لوصف الألم الناتج عن الرغبة في العودة إلى الموطن.

والمصطلح يوناني مكون من كلمتين (نوستوس) وتعني رحلة العودة، و(ألغوس)وتعني الألم والحزن.

وقد استخدمها هوميروس في ملحمته الشهيرة (الأوديسةالتي تحكي رحلة الملك (أوديسيوس) في العودة إلى موطنه بعد حرب طروادة، وما صاحبها من أحداث.

وفي القرن الثامن عشر في أوروبا توسع استخدام الكلمة(نوستالجيا)، وفي نهاية ذلك القرن أصبحت مصطلحًا يعبر عن التعلق المرضي بأي مكان، ثم تطور إلى وصف التعلق بأي أزمنة بعيدة أو أشخاص. يقول (ماركوس ناتالي): (اعتبار هوفر المصطلحات الموجودة سلفًا غير كافية، وشعوره بحاجة إلى خلق مصطلح جديد، تؤكد أن ظاهرة جديدة قد بدأت، طريقة جديدة للشعور، أو طريقة جديدة للتفكير في شعور قديم).

ثم صار هذا المرض مرتبطًا بالمجتمعات، ومع تطاول الحداثة وانتشار ثقافتها وفيالنصف الثاني من القرن التاسع عشر، توقف تشخيص هذه الحالة الطبية. يقول ناتالي: (هنا انتهت حياة الكلمة في المجال الطبي. فمجموعة الأعراض التي كانت مرتبطة بها في السابق، أُدرِجت تحت فئات تشخيصية أخرى، وأصبحت مرتبطة في وقت لاحق بالاكتئاب)

وعلى العموم فالحنين للماضي أمر موجود ولا يمكن إنكاره أو تجاوزه، لكن يجب أن يوضع في النطاق الصحيح،

فلا مانع من تذكر الأحبة والمواقف الرومانسية الجذابة لنعطي أنفسنا مجالاً من السعادة، ونفثات من عبق التاريخ الذي يرسم ملامح الرضا على وجوهنا ويشعرنا بشعور الحب والصفاء والنقاء وطهارة النفوس.

مع عدم الانقياد المطلق وراء القول بأن الماضي أجمل من الحاضر!

فطبيعة النفس البشرية كما سبق تتذكر المواقف الإيجابية فقط لمقارنتها بشعور القلق الذي تعيشه هذه اللحظة لأي سبب كان. ونادرًا جدًا ما يتذكر الناس المآسي التي كانت تعصف بهم في الماضي وذلك في مقام التوجيه والاستفادة.

فإن كنتَ صاحب نفس طويل والمقام يسمح لك بحوار ومناقشة من يقول بذلك فاسأله عن الفقر وقلة الحيلة في مقاومة الحياة ومقاومة المرض وفقدان الأمن بجميع مناحيه وصعوبة التواصل والتنقل ووطأة الجهل وغيرها من المنغصات التي كانت في ذلك الزمن الذي يدعي بأنه (جميل)!

(وَكُلُّ اِمرِئٍ يولي الجَميلَ مُحَبَّبٌ        وَكُلُّ مَكانٍ يُنبِتُ العِزَّ طَيِّبُ) *المتنبي

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟