القيادة المنتجة.. كيف تصنع فريقا ينجز من دون رقابة؟

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي

منذ سنين عديدة ونحن نعمل في القيادة.. بلا شك، واجهتنا العديد من التحديات وتغلبنا عليها، لم تكن رحلتنا مفروشة بالورود مطلقا، ولم يكن الطريق سهلا!
كانت حياة إدارية أشبه بالمعارك، خصوصا مع أصحاب الفكر المقاوم للتغيير والتطوير، ولكن مع ذلك كسبنا قيما ساعدت في التميز والانضباطية، وكسبنا احترام الجميع، واستطعنا إقناعهم بما نقدمه من مسؤوليات، وأن لدينا الرؤية التي توصل الفريق إلى التميز، فزادت نسبة الالتزام.
تشاركنا مع فرق العمل ساعات شاقة، وتقاسمنا معهم أوقاتا عصيبة ومهام مضنية كانت كفيلة بأن تجعل العمل يسير طبقا للأهداف التي تم التخطيط لها. واصلنا العمل ليل نهار حتى تحقق لنا الإنجاز.

هكذا هي بيئة العمل الحديثة، لا يجب أن يقف فيها القائد همه الأول السيطرة على الفريق، إنما يعمل معه على بناء الخطط والاستراتيجيات، ويمارسها على أساس بناء الثقة، ويستثمر الوقت في تطوير فريقه والعمل معه باستمرار في الحصول على خبرات جديدة.

اعلم، رحمك الله، أنه في بيئة العمل الحديثة التي تتسارع فيها المتغيرات، لم يعد معيار القيادة الناجحة هو الحضور الدائم أو السيطرة الدقيقة، إنما في القدرة على صناعة فريق يعمل بإنتاجية عالية حتى في غياب القائد. هذه هي القيادة المنتجة، التي تركز على تمكين الموظفين، وبناء الثقة، وتأسيس ثقافة مسؤولية ذاتية تثمر إنجازا مستمرا دون رقابة مباشرة.

القائد المنتج لا يقف عند حدود الإدارة التقليدية التي تقوم على التوجيه والرقابة، غير أنه يتجاوزها إلى فن بناء الإنسان العامل؛ إذ يرى أن الاستثمار في تطوير الأفراد هو الطريق الأنجع لتحقيق الأهداف التنظيمية طويلة المدى. فكل دقيقة يقضيها في تمكين أحد موظفيه تعني ساعات من العمل المستقل الفعّال في المستقبل.

أولا: مفهوم القيادة المنتجة
القيادة المنتجة هي أسلوب إداري يقوم على تحفيز الأفراد للإنجاز من خلال التمكين والثقة والمسؤولية المشتركة، وهي نقيض لثقافة الرقابة الصارمة التي تضعف روح الإبداع وتستنزف طاقة الفريق.
فالقائد المنتج لا يسأل: «هل أنجزت ما طلبته؟»، بل يسأل: «هل تمتلك الأدوات والدافعية لتنجز ما تؤمن به؟».
تعد هذه القيادة امتدادا لمفهوم القيادة التحويلية التي تركز على إلهام الموظفين وربطهم برؤية أعمق من مجرد تنفيذ المهام، وتغرس فيهم روح المبادرة والابتكار.

ثانيا: الأسس العلمية لصناعة فريق يعمل دون رقابة
تشير الدراسات الحديثة في علم القيادة والسلوك التنظيمي إلى مجموعة من المبادئ التي تميز الفرق المنتجة ذاتيا، ومن أبرزها:

1. التمكين:
تمكين الموظف يعني منحه الصلاحية والثقة لاتخاذ القرار في نطاق عمله. أظهرت دراسة ميدانية عملنا عليها منذ سنوات أن الفرق التي تحظى بتمكين إداري حقيقي تحقق إنتاجية أعلى بنسبة 21% مقارنة بالفرق التي تعتمد على الرقابة التقليدية.

2. التحفيز الداخلي:
وفقا لنظرية عالمي النفس «ديتشي ورايان»، فإن الإنسان يكون أكثر التزاما بالعمل عندما ينبع دافعه من ذاته لا من الضغوط الخارجية. لذلك، يبني القائد المنتج بيئة عمل تُشعر الموظف بالإنجاز، والاستقلالية، والانتماء.

3. الثقة التنظيمية:
الثقة ليست مجرد شعور، بل هي إطار عمل يقلل الحاجة إلى المراقبة، ويعزز التعاون والمساءلة الذاتية. فالقائد الذي يزرع الثقة في فريقه يحصد ولاء يتجاوز حدود الواجب الوظيفي.

4. القيادة بالمثال:
من أبرز أدوات القائد المنتج أن يكون نموذجا يُحتذى، وهي القيادة بالمثال؛ فالفريق يتبنى السلوكيات التي يراها أكثر مما يسمعها. حين يرى الموظفون قائدهم منضبطا، صادقا، ومتفانيا، فإنهم يقلدونه تلقائيا دون الحاجة إلى توجيه دائم.

5. الوضوح التنظيمي:
الفرق التي تفهم أهدافها وأدوارها بدقة لا تحتاج إلى متابعة مستمرة، فوضوح التوجه يقلل الغموض ويزيد الاستقلالية. لذلك، على القائد أن يضمن أن الرؤية والاستراتيجية مفهومتان لدى الجميع.

ثالثا: توصيات علمية وعملية للقادة

1. اجعل التواصل أداة تمكين لا وسيلة تفتيش:
خصص اجتماعات دورية لتبادل الرؤى بدلا من مراقبة الأداء، وركز على طرح الأسئلة التي تحفز التفكير، ولا تركز على الأسئلة التي تكشف التقصير.

2. ابنِ نظاما للثقة قبل نظام المتابعة:
اعتمد على مؤشرات أداء موضوعية وشفافة، لكن اجعلها وسيلة لتطوير الفريق لا لتقييده.

3. نمِّ مهارات القيادة الذاتية في موظفيك:
استخدم أسلوب التدريب بدل التوجيه، فالموظف الذي يكتشف قدرته بنفسه يكون أكثر التزاما بها.

4. كافئ المبادرات لا التعليمات:
اجعل المكافآت مرتبطة بالابتكار، وحل المشكلات، وروح التعاون، وليس مجرد الالتزام بالأوامر.

5. استثمر في بيئة العمل النفسية:
أشعر موظفيك بالأمان المهني، فالأمان يولد الإبداع، بينما الخوف يخلق التردد والجمود.

إن القيادة المنتجة ليست غيابا عن الميدان، بل حضور عميق في وعي الفريق. إنها انتقال من ثقافة المراقبة إلى ثقافة المسؤولية، ومن إدارة الوقت إلى بناء الثقة.

القائد الذي يصنع فريقا ينجز من دون رقابة هو قائد يزرع الإلهام، ويؤمن أن أعظم إنجاز يمكن أن يتركه هو فريق يعمل بقيمه، لا بتوجيهاته. فالغاية من القيادة ليست أن تكون محور العمل، بل أن تجعل العمل مستمرا حتى من دونك. عندها فحسب تكون قد بلغت أرقى مراتب القيادة المنتجة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
تحتاج مساعدة؟