
الأرقام لا تصنع مجدا
علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي
في وقت تتسابق فيه المؤشرات والإحصاءات، ويقاس النجاح بما تحصيه الجداول، وتقيده التقارير، وتوثقه بعض الجهات المهتمة بتوثيق الأعداد والحسابات والشواهد العددية، يغيب عن أذهان الكثيرين أن المجد لا يصاغ بالأرقام وحدها. فكم من إنجاز دونته دفاتر الحسابات، لكنه سرعان ما تلاشى من ذاكرة الناس، وكم من أثر إنساني خالد بقي حاضرا رغم غياب القيم العددية عنه.
قد تبدو الأرقام في ظاهرها معيارا واضحا للنجاح؛ فهي تحصي الثروات، وتوثق الدرجات، وتسجل الإنجازات. أقول: «قد تبدو في ظاهرها!»، لكن الحقيقة أنها مهما بلغت دقتها، تعجز عن التعبير عن جوهر النجاح ومعناه العميق؛ فالمجد لا يبنى على كم محسوب، إنما على أثر خالد يظل حاضرا في ذاكرة الحياة.
بالتأكيد، البيانات الكمية تمنح صورة جزئية عن النجاح، لكنها لا تنطق بروح التجربة، ولا تحكي عن العزيمة والإرادة التي تقف خلف كل إنجاز حقيقي. التاريخ نفسه خير شاهد، إذ لا يذكر إلا من صنعوا بصمات إنسانية وأفكارا ملهمة، لا من حققوا أرقاما جامدة في زمن قصير.
إن المجد يرتبط بالقيمة قبل الكم، وبالأثر قبل الحصاد. الثروة والدرجات والشهادات قد تسجل في أرشيف المؤسسات، لكنها لا تكفي لتصنع مكانة راسخة في الذاكرة الجمعية. ما يبقى هو العطاء النبيل، والموقف الشجاع، والعمل الذي ينفع الناس ويمتد أثره عبر الأجيال.
لقد عرف التاريخ رجالا ونساء لم يملكوا رصيدا من المال، ولا شهادات ممهورة بأختام الجامعات، لكنهم تركوا إرثا من الفكر، أو بصمة من القيم، أو أثرا في النفوس لا تمحوه السنون.
حين نبحث عن معنى النجاح الحقيقي، علينا أن نعيد تعريفه: النجاح ليس ما يكتب في تقارير الشركات أو سجلات البنوك، غير أنه ما يخلد في قلوب الناس وعقولهم. فالمجد قيمة تبنى على الإخلاص، ورسالة تصنع بالعطاء، وأثر يظل حيا بعد أن تطوي الأيام أصحاب الأرقام.
في المقابل، امتلأت دفاتر الأرقام بأسماء حققوا ثراء عابرا أو أرقاما قياسية سرعان ما طوتها الأيام دون أن يتذكرهم أحد.
المجد الحقيقي يصنعه الإنسان حين يسمو بقيمه، ويخلص في عمله، ويجعل من إنجازه رسالة يتعدى نفعها حدود ذاته. النجاح ليس في أن تجمع ما يحصى، بل أن تبني ما يلهم؛ ليس في أن تحقق رقما قياسيا، بل أن تكتب قصة إنسانية صادقة.
إن لغة الأرقام قد تسجل فوزا عابرا، لكنها لا تستطيع أن تخلد إنسانا.
ما يخلدنا هو ما نقدمه من علم نافع، أو موقف شجاع، أو عطاء لا ينقطع. وحدها القيم تصنع المجد، أما الأرقام فهي مجرد تفاصيل على هامش التاريخ.
آخر القول
القول الراجح أن الأرقام وسيلة للقياس، لكنها ليست عنوانا للخلود. فالمجد ليس عددا في تقرير أو خانة في جدول، إنما هو حياة تعاش بوعي، ورسالة تؤدى بإخلاص، وأثر يبقى بعد الرحيل. لذلك، حين نبحث عن معنى النجاح، فلننظر إلى ما نتركه في قلوب الناس، لا إلى ما يكتب في دفاتر الحساب.