
عروة بن أذينة
هو أبو عامر عروة بن يحيى بن مالك الليثي المدني الحجازي الكناني، وأذينة تصغير أذن، لقبلوالده يحيى. وأكثر المؤرخين على أنه ولد في المدينة المنورة، وبعضهم على أنه ولد في ضاحيةمن ضواحي المدينة. عاش شطراً من عمره في القرن الأول الهجري وشطرًا من القرن الثاني حيث توفي عام 130 هـ.
يعد في شعراء المدينة المقدمين، وفي مشاهير الشعراء الإسلاميين حسب تقسيم أهل الطبقات،ومترجم في كثير من كتب الأدب والتاريخ وقد روي أن اسحاق بن إبراهيم الموصلي قد ألّف عنه (أخبار عروة) ونقل عنه صاحب الأغاني وغيره، وتواضع جميع من أتى على سيرته كصاحب الشعر والشعراء، ومنتهى الطلب، والتحفة اللطيفة وغيرهم بأنه شاعر غزلٌ، مقدم، من شعراء المدينة وهو معدود في الفقهاء والمحدثين، روى عنه مالك بن أنس، وعبيد الله بن عمر العدوي، وأنه كان شريفاً ثبتًا، يحمل عنه الحديث، وعالمًا ناسكاً مع حذقه الشعر.
ويبدو واضحاً من مجموع ما قيل عنه في كتب التراجم والأدب – أنه لم ينصب من نفسه شاعرًا يذهب مذاهب شعراء عصره في التهافت على الصلات والعطايا لغلبة الزهد والعبادة عليه، ورغم ذلك فقد تجمع له شعر كثير، وحرص مؤرخو الأدب على ذكره وإيراد ما توافر لديهم من شعره.
عاش عروة في عصر مشاهير الشعراء، فقد كان في عصر عروة جرير والفرزدق، والأخطل، وعمر بن أبي ربيعه، وكثير عزة. وجميل بثينة، وابن قيس الرقيات، والأحوص، والعرجي، وكانت لهم فضاءات الشعر مفتوحة عند الخلفاء، وفي الأسواق، ومجامع الناس، لكن عروة بوازع من التقوى، ورادع من عفاف النفس، والفخر بنسبه ظل عازفاً عن الخوض في مجرى بقية الشعراء.
فقد روى صاحب الأغاني عن يحيى بن عروة بن أذينة قوله: ((أتى أبي وجماعة من الشعراء هشام بن عبدالملك، فنسبهم، فلما عرف أبي قال له: أنت القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه
ولو جلست أتاني لا يعنّيني
فقال له ابن أذينه: نعم أنا قائلها.
قال: أفلا قعدت في بيتك حتى يأتيك رزقك؟
وغفل عنه هشام فخرج من وقته وركب راحلته ومضى منصرفاً ثم افتقده هشام فعرف خبره، فأتبعه بجائزة وقال للرسول: قل له: أردت أن تكذبنا وتصدق نفسك، فمضى الرسول فلحقه وقد نزل على ماء يتغدى، فأبلغه رسالته ودفع إليه الجائزة، فقال: قل له: قد صدقني ربي وكذبك، قال يحيى بن عروة: وفرض له فريضتين فكنت أنا في إحداهما)) وكانت هذه الوفادة من المدينة إلى مكة.
والبيتان الواردان في القصة السالفة كانت من عيون قصائد عروة في الحكمة وتجربة الحياةالتي استهلها بقوله:
أفي رسوم محلًّ غير مسكون
من ذي الأجارع كاد الشوق يبكيني
قفرٍعفا غير أوتاد منبّذةٍ
ومنحن ُخطّ دون السيل مدفون
ولابن أذينة قصص حكيت عنه مع السائب المخزومي الذي كان يهوى شعره، ومع ابن عائشة المغني الذي كان يغني قصائده، والسيدة سكينة بنت الحسين التي تغلظ معه المزحة، بل إن في حياته رجالاً كثراً، هم جلساؤه وأصفياؤه، من الشعراء والأدباء والمغنين، ومن هؤلاء ناقد الحجاز ابن أبي عتيق الذي كان يسامر عروة، وعروة ينشده من شعره وشعر غيره، وكان ابن أبي عتيق ظريفاً ذا دعابة ومزاح، وربما أسمع عروة ما يبغضه، وذلك عندما أنشده عروة أبياتاً في رثاء أخيه بكر، قال فيها:
سرى همي وهمُّ المرء يسري
وغاب النجم إلا قيد فتر
أراقب في المجرة كل نجم
تعرض للمجرة كيف يجري
لهمّ لا أزال له مديماً
كأن القلب أُسعر حرّجمر
على بكر أخي ولّى حميداً
وأي العيش يصفو بعد بكر
فقال ابن أبي عتيق: كل العيش والله يصلح بعده حتى الخبز والزيت، فغضب عروة من قوله وقام عن مجلسه، وحلف ألا يكلمه أبداً، فماتا متهاجرين!
ولابن أذنية أيضاً مشاركات في صياغة الألحان والقصائد المغناة، وقد ذكرله صاحب الأغاني أصواتاً كثيرة، وله مقولات في النقد يتداولها أهل الأدب باعتبارها بدايات المقولات النقدية، منها ما روي عنه لما سمع صديقه الحزين الكناني يهجو عمرو بن عمرو بن الزبير فقال من أبيات:
(لعمرك ما عمرو بن عمرو بماجد … ولكنه كزّ اليدين بخيل)
فقال له (ويحك بعضها كان يكفيك، فقد بنيتها ولم تقم أوَدَها وداخلتها وجعلت معانيها في أكمتها.. إلخ))
ووصفه هذا لأبيات الحزين دليل على بصره بالشعر، وتعمقه في فهمه، فلم يكتف بوصف تلك الأبيات بضعف التركيب بقوله (بنيتها ولم تقم أودها) بل أضاف (وداخلتها وجعلت معانيها في أكِمّتها) فهو يصفه بغموض المعنى، وقوله (كان بعضها يكفيك) يدل على تكرار معاني تلك الأبيات.
وشعره من حيث المضامين متعدد الأغراض، مختلف الجوانب غير أن النسيب من أبرز ما عرف من ذلك الشعر، مع أن الفخر بقبيلته كنانه وقريش يظهر بوضوح في كثيرٍ من شعره.
ولشعره مزايا فنيه تتجلى في تراكيبه الناصعة وقوافيه الموقعة توقيعاً يسلب الألباب، أجلاها في قصيدته الشهيرة التي تفردت بروي ربما لم يشتهر مثله في الشعر العربي.
إن َّ التي زعمت فؤادك ملَّها
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فيك الذي زعمت بها وكلاكما
يبدي لصاحبه الصبابة كلها
ويبيت بين جوانحي حب لها
لوكان تحت فراشها لأقلها
ولعمرها لوكان حبُّك فوقها
يوما وقد ضحيت إذا لأظلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوةٍ
شفع الفؤادُ إلى الضمير فسلَّها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقٍة فأدقّها وأجلَّها
لما عرضت مسلما لي حاجةٌ
أرجو معونتها وأخشى ذُلَّها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلَّها
فدنا فقال: لعلها معذورة
من أجل رقبتها فقلت لعلَّها
وللبلدانيين اهتمام بشعر عروة لكثرة المواضع المذكورة في شعره وأغلبها مواضع في المدينة وأطرافها، كذات جيش، وريم، والأجمة، وألجام، والفرش، والمشاش، وذي العشيرة، والعجمة والعويقل، وملتذ، والملحاء.. إلخ. منها ذكره لذي العشيرة في قوله:
يا ذا العشيرة، قد هجت الغداة لنا … شوقاً، وذكرتنا أيامنا الأُولا
رحم الله عروة أبن أذينة العالم المتنسك، والشاعر الرقراق في زمن الاحتجاج.